“إسرائيل” ولعنة الفلسطينيين: سقوط الوهم وبداية الأفول!

وزير الخارجية والمغتربين الأسبق عدنان منصور
0

لم تستطع الحروب ولا العقود التي أعقبت قيام الكيان “الإسرائيلي” عام 1948، أن تمحو من ذاكرة الفلسطينيين والعرب حقيقة دامغة، وهي أنّ الكيان المحتلّ، تأسّس بفعل عامل القوة، والدعم الخارجي، وفرض الأمر الواقع بتواطؤ قوى دولية، أتاح للحركة الصهيونية وتنظيماتها الإرهابية أن تنشئ دولتها على أرض فلسطين بعد مجازر رهيبة ارتكبتها، وقيامها بتطهير عرقي للفلسطينيين، كي تكون فلسطين مقدمة لتحقيق حلم الصهاينة في إنشاء “إسرائيل الكبرى”.

لقد تعاطى الصهاينة مع فلسطين على أنها أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض، لذا أرادوا تفريغ فلسطين من سكانها، لتصبح خالية لهم، ومن ثم فرض الأمر الواقع «الإسرائيلي» عليها، ليمحوا بعد ذلك الوجود الفلسطيني برمته.

كانت العمليات الإرهابية تعكس نهج وعقيدة وسلوك القادة الصهاينة وعصاباتهم المسلحة، كي يختزلوا شعباً بأكمله، من خلال عمليات تطهير عرقي واسعة النطاق، قامت بها التنظيمات الارهابية الهجانا، وشتيرن، والارغون، أعوام 1947، و1948، و1949، أدّت الى تمشيط وتدمير المدن والقرى الفلسطينية، التي بلغ عددها وفقاً لمصادر المؤرّخ الإسرائيلي بني موريس ودراسة إسرائيل شاحاك بين 350 و383 قرية ومدينة. علماً انّ عدداً من الباحثين العرب، مثل عبد الجواد صالح ووليد مصطفى أحصوا 472 قرية ومدينة مدمّرة، فيما سلمان أبو ستة، وبعد دراسات وإحصاءات عميقة موثقة قام بها، تعتبر من أهمّ الأبحاث في هذا المجال، أكد على أنّ عدد القرى والمدن المدمرّة بلغ 566 قرية ومدينة.

لقد ظنّ الصهاينة في ذلك الوقت، انّ القوة وحدها تستطيع أن تجعل منهم دولة. وانّ “قوة التقدّم في تاريخ العالم هي للسيف”، “نحن نحارب إذن نحن نكون”، ولولا النصر في دير ياسين، لما كانت دولة إسرائيل”! (مناحيم بيغين رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، وزعيم عصابة الارغون الإرهابية قبل إعلان دولة “إسرائيل”).

لقد روّج أقطاب الحركة الصهيونية، وعلى رأسهم ثيودور هرتزل، وإسراييل زانجويل Israël zangwill، لفكرة شوّهت تاريخ فلسطين وواقعها العربي، معتبرين أنها أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض، هذا الادّعاء الوهم، لقيَ في ما بعد رواجاً في الأدبيات السياسية للقادة “الإسرائيليين”، ما دفع برئيسة وزراء “إسرائيل” في 8 آذار 1969 لتقول: “كيف يمكن لنا إعادة الأراضي المحتلة؟!

ليس هناك من أحد نعيدها إليه! وبعد حرب حزيران
1967، واحتلال الضفة الغربية، صرحت غولدا مائير يوم 15 حزيران 1969 كلّ وقاحة قائلة: “لا يوجد شيء اسمه الفلسطينيون. لم يكن هناك في فلسطين من فلسطينيين حتى يقال إننا طردناهم، وأخذنا البلاد منهم. إذ لم يكن لهؤلاء من وجود”.

كان بن غوريون يريد أرضاً خالية من الفلسطينيين، كي يقيم كيانه عليها.

لذلك لم يشأ عام 1948 أن يتوسع في ضمّ المزيد من الأراضي رغم مواجهته معارضة عنيفة داخل الكنيست، واتهامه بالتخاذل في عدم ضمّه الضفة الغربية، وذلك خشية وخوف بن غوريون من الديموغرافيا الفلسطينية حيث كان ردّه: “إنه لمن الأفضل تحقيق الدولة اليهودية من دون أرض إسرائيل كلها، بدلاً من أرض “إسرائيل” كلها من دون دولة يهودية”.

كان بن غوريون يدرك جيداً العامل الديموغرافي وخطورته على مستقبل الدولة اليهودية، خاصة أنّ تعداد العرب الفلسطينيين سيفوق مستقبلاً تعداد اليهود. وانّ إقامة دولة ديمقراطية على كامل التراب الفلسطيني، يترتب عنه:

1 ـ إما إشراك الفلسطينيين في الحكم بشكل فاعل ومؤثر بسبب نسبة عددهم الى “الإسرائيليين”، وهذا ما أراد بن غوريون تجنبه، ولو لوقت، تاركاً المجال للأجيال اليهودية القادمة، أن تأخذ المبادرة في تمدّد الاحتلال.

2 ـ وإما طرد الفلسطينيين على الفور. وهذا ما تمّ تنفيذه من خلال خمس موجات عسكرية قامت بها المنظمات الإرهابية “الإسرائيلية”، وفي ما بعد الجيش الذي تشكل من هذه المنظمات التي انضوت تحت لوائه. موجات التطهير العرقي الخمس، وثقها بني موريس في كتابه: “نشأة اللاجئين الفلسطينيين”.

موجات بدأت من شهر كانون الأول 1947، وصولاً الى شهر تموز 1949، أسفرت عن ارتكاب مجازر رهيبة، وتطهير المدن والقرى، وإفراغها من سكانها.

عقيدة الاحتلال، والتطهير العرقي، وضمّ المزيد من الأراضي عبر عنها موشي ديان بعد حرب حزيران 1967 قائلا: «إن الجيل الماضي أنشأ دولة “إسرائيل”، والجيل الحاضر أحرز ما أحرزه في حرب 1967… فعلى الجيل القادم أن يأخذ المبادرة وينطلق عبر الحدود.”!

بهذا المنطق العدواني التوسعي، أراد “الإسرائيليون” أن يختزلوا وجود الشعب الفلسطيني، وينزعوا تاريخه وحاضره، هويته وعقيدته، جذوره وحضارته، ثقافته وانتماءه. لذلك كان استخدام القوة العسكرية واللجوء الى العمليات الإرهابية غاية “إسرائيل”، لانتزاع فلسطين من ذاكرة الجيل الثاني والثالث الفلسطيني. في الوقت الذي ـ باعتقادهم الوهم ـ سيترسخ فيه “الوجود الإسرائيلي” أكثر فأكثر مع الجيل الثاني والثالث الإسرائيليين وما بعدهما!

لم يكن أمام “إسرائيل” إلا استخدام كافة وسائل القتل والإرهاب، والتخويف لإخضاع المقاومة الفلسطينية. إرهاب وقتل ترسخ في عقول العديد من «الإسرائيليين»، منهم ارمون سوفيرArmon Soffer الأكاديمي في جامعة حيفا الذي أدلى يوم 10 أيار 2004 بحديث الى صحيفة «جيروزالم بوست» جاء فيه: «فيما لو أردنا ان نبقى على قيد الحياة، يتوجّب علينا ان نقتل ونقتل ونقتل. إن لم نقتل في كلّ وقت وفي كل يوم، سينتهي وجودنا…”.

سياسة القتل والحروب العنصرية الإسرائيلية، واستحضار المحرقة، وجعلها سلوكاً ملازماً للإسرائيليين، أثارها رئيس الكنيست الأسبق أبراهام بورغ في كتابه: Vaincre Hitler بقوله: «إنّ حضور الموت الذي لا يتوقف في حياتنا، المرتبط بحروب «إسرائيل»، لا يؤدّي إلا الى الإكثار من المجازر والدمار والإبادة التي يتلقاها شعبنا. لهذا فإنّ الأموات في هذا البلد لا يرقدون أبداً في سلام. انهم دائماً نشطون، دائماً حاضرون، دائماً ملازمون لوجودنا التعيس، والمحرقة، والحروب، والموت واستحضار للذاكرة الأبدية. لقد ربحنا كلّ الحروب، ومع ذالك نحتفظ بشعور عميق بالخسارة… إنّ الحرب لم تعد استثناء بل أصبحت قانوناً. طريقة عيشنا طريقة حرب مقابل الجميع، أعداء وأصدقاء على السواء.

أمام هذه الحقيقة المحزنة، اننا على يقين أنّ “الإسرائيليين” لا يفهمون إلا لغة القوة. هذه العقلية التي تعكس بداية العنجهية الإسرائيلية في وجه الهزائم العربية، أصبحت المبرّر لأفعال عديدة، ومفاهيم سياسية غير مقبول بها في عالم عادل…»
بعد خمسة وسبعين عاماً من احتلال “إسرائيل” لفلسطين، ورغم امتلاكها ترسانة نووية، وعسكرية تجعل منها واحدة من أكبر القوى العسكرية الضاربة في الشرق الأوسط، بموازنة عسكرية تبلغ 14 مليار دولار، يضاف اليها مساعدة عسكرية سنوية بقيمة 3.5 مليار دولار تقدّمها الولايات المتحدة لها، لم تستطع «إسرائيل» أن تطفئ شعلة المقاومة، ولا ان تلغي حقائق التاريخ، أو تروّض الشعب الفلسطيني، أو تلغي وجوده، وتقضي على إرادته في مقاومة الاحتلال. كما لم تستطع أن توفر لمستوطنيها الأمن والاستقرار، والثقة بمستقبل لن يكون بالتأكيد، إلا لأصحاب الأرض والحقّ، بعد أن قلب المقاومون الفلسطينيون

المقاييس، والمعادلات العسكرية والديموغرافية، والعقائدية التي بنى عليها قادة المنظمات الصهيونية منذ تأسيس دولتهم وحتى اليوم.

حساب الوهم “الإسرائيلي” لم يكن في موضعه. فالتآكل بدأ يتفاعل، والانقسام الداخلي، والتمييز العنصري ينخر بشدة المجتمع “الإسرائيلي” في الوقت الذي قلب فيه الجيل الثاني والثالث الفلسطيني المقاييس، وأطاح بالنظريات، والسياسات، والخطط، والحلول المفخخة، التي رسمتها دولة الاحتلال مع حلفائها وعرابيها بحق الفلسطينيين.

منذ 75 عاماً، وأرحام أمهات فلسطين تنجب المقاومين أصحاب الأرض الذين لم يحسب أقطاب الصهاينة حسابهم. هم المقاومون الحقيقيون البواسل.

هم هوية فلسطين ووجدانها، ماضيها وحاضرها ومستقبلها. هم الذين سيجعلون العالم كله يشهد على تحرير أرضهم من الغزاة عاجلاً أم آجلاً.

انّ شعباً عظيماً، ومقاومة عنيدة لا نظير لها في العالم كله، فيها خيري علقم، وقوافل الشهداء، حاضرة في كلّ الساحات، تقول بصوت عال للكيان المحتلّ، انّ فلسطين ليست لشذاذ الآفاق، وإنما لشعب متجذر فيها، وها أنا هذا الشعب. المنازلة بيننا لن تتوقف، والإرادة الأقوى هي التي ستنتصر لا محال! إرادة قوافل شهداء الجيل الثاني والثالث الأكثر تعلقاً وثباتاً وإيماناً بفلسطين وشعبها. هو الجيل الثائر الذي يرفع منسوب مقاومته يوماً بعد يوم، والمُصرّ على تبديد الوهم الإسرائيلي، وتصحيح مسار التاريخ.

بعد مضيّ 75 عاماً على الاحتلال، هل لا زال قادة “إسرائيل” الجدد مقتنعين انّ فلسطين كانت أرضاً بلا شعب، لشعب بلا أرض؟! الجواب عند المقاومين الذين عاهدوا الله والأمة على تطهيرها من الاحتلال الصهيوني، في يوم سيسأل فيه الفلسطينيون: ما إسرائيل وما جبل صهيون، كما سأل قوم من قبل، ما عاد وما ثمود…؟

د. عدنان منصور

لبنان/ وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.