شبح حرب دوليّة يخيّم على أوكرانيا والمشرق!

وزير الخارجية والمغتربين الأسبق عدنان منصور
0

ما يجري من تطورات عسكرية متسارعة على الساحة الأوكرانية والروسية، واندفاع الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في الانخراط المباشر غير الرسميّ في الحرب الأوكرانية ضد روسيا، وتزويد كييف بأحدث أنواع الأسلحة الموجودة في ترسانة الغرب، والإصرار على الذهاب بعيداً في إلحاق الهزيمة بروسيا، لهو مؤشر خطير جداً. إذ لا يمكن لموسكو أن تتحمّله، ولو أدّى بها الأمر الى استخدام أسلحة غير تقليدية، لأنّ هزيمة روسيا في الميدان ستتيح الفرصة للغرب في ما بعد لتجزئتها وتفكيكها.
واشنطن بسياستها هذه، تستعيد نظرية هالفورد ماكندار Halford Mackinder، أحد أبرز منظري الجيو بوليتيك في العالم، ومؤلف الكتاب الشهير: «المحور الجغرافي للتاريخ» عام 1904.
اعتبر ماكندار أنّ من يسيطر على أوروبا الشرقية، يسيطر على قلب العالم، وهي أوراسيا، التي تشمل روسيا والصين ومنشوريا، وهضاب آسيا والهملايا جنوباً ونهر الفولغا من الغرب.

رغم التطوّر النوّعي للأسلحة الجوية، والنووية، والصواريخ العابرة للقارات، الذي أسقط التضاريس الطبيعيّة التي تشكل خطوطاً دفاعية ضدّ القوات البرية والبحرية، إلا أنّ روسيا تبقى محور اهتمام القوى الكبرى الغربيّة وعلى رأسها واشنطن، نظراً لموقعها الجيو سياسيّ، وإمكاناتها الهائلة، وقوتها، ودورها البارز في صنع القرار العالميّ.

يعتبر ماكندار أنّ مَن يسيطر على أوروبا الشرقية، يسيطر على قلب العالم باعتبارها بوابة العبور الى أوراسيا. ومَن يسيطر على قلب العالم، يسيطر على جزيرة العالم التي تشمل القارات الثلاث أوروبا وأفريقيا وآسيا، ومَن يحكم جزيرة العالم يسيطر على العالم كله. لذلك لم تخرج روسيا وقبلها الاتحاد السوفياتي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، من دائرة الاستهداف الأميركيّ الغربيّ لها، لما تتمتّع به من موقع استراتيجيّ، ومكانة عالميّة، وقوة عسكرية كبرى تفرض نفسها على الساحة الدولية.

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ظلت عين الولايات المتحدة على روسيا ساهرة، بغية إضعافها وتفكيكها، كي يُتاح لواشنطن في ما بعد هيمنتها الأحاديّة على العالم.

الحلف الأطلسيّ الذي كان يضمّ 12 دولة عند تفكك الاتحاد السوفياتي، وأصبح اليوم يضمّ 32 دولة، ويلامس حدود روسيا، لم يستطع تحجيم مكانتها في العالم وتهميشها. لذلك أرادت واشنطن جعل أوكرانيا حصان طروادة، بها تستطيع أن تصفّي حسابها مع موسكو، ومنها التوجّه شرقاً إلى قلب العالم.

منذ اندلاع القتال في أوكرانيا يوم 24 شباط/ فبراير 2022، لم تتمكّن أوكرانيا، رغم المساعدات المالية والعسكرية واللوجستية الضخمة لها، من أن تحقق هدف واشنطن، وتلحق الهزيمة بروسيا، وفرض الأمر الواقع عليها، فيما الحرب كان لها تأثيرها السلبيّ على الدول الأوروبيّة التي أرهقت أوضاعها المالية، والاقتصادية، والطاقوية، والمعيشية.

لقد عمدت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى اللجوء لحرب الاستنزاف ضدّ روسيا منذ اليوم الأول للقتال، وبعد أن فشلت أوكرانيا طيلة هذه الفترة في تحقيق الهدف، قرّرت واشنطن الذهاب بعيداً في تزويد أوكرانيا بالسلاح المتطوّر جداً، لكسر التفوّق العسكري الروسي، وهذا ما أحدث المتغيّرات في ساحة القتال، بعد توغّل القوات الأوكرانية داخل الأراضي الروسية لأول مرة منذ سنتين ونصف السنة.

ترى واشنطن أنّ الوقت مناسب لها في منطقتين حساستين، واحدة في قلب العالم (روسيا)، وأخرى في جزيرة العالم (المنطقة المشرقيّة). كلتاهما تشكلان أهمية استراتيجية قصوى للولايات المتحدة التي ترى أنه من روسيا تستطيع السيطرة على قلب العالم، وبدعمها لـ «إسرائيل» للقضاء على المقاومات في المشرق، وبغطاء الدمى الحاكمة فيه، تتحكم بالشرق الأوسط برمته.

روسيا تشكل تحدياً كبيراً لواشنطن والغرب في أوراسيا، كما تشكل إيران والمقاومة الفلسطينية والمقاومات في المشرق، حاجزاً لها ولـ «إسرائيل» للسيطرة الكاملة على المنطقة. من هنا تبدو شراسة الحرب التي يخوضها الغرب في أوكرانيا، وتخوضها «إسرائيل» في غزة. الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا و»إسرائيل»، يريدون فرض الأمر الواقع العسكريّ، والإصرار على إلحاق هزيمة كاملة بروسيا وبالمقاومة في فلسطين.

هذا الإصرار قد يرغم روسيا على استخدام سلاح نوويّ تكتيكيّ سبق أن لوّح به الرئيس بوتين، حيث لن تتردّد موسكو في استخدامه، إذا ما شعرت أنّ حرب الاستنزاف ستقوّض سيادتها وأمنها القومي، ووجودها بالصميم.

إذا كانت واشنطن تستدرج موسكو لحرب خاسرة، فإنّ نتنياهو من جهته يعمد إلى زجّ وتوريط واشنطن في حرب الإبادة الجماعية التي ينفذها بحق الفلسطينيين، لإنهاء قضيتهم الى الأبد. وإذا ما شعر بهزيمة في الميدان، لن يتردّد في استخدام السلاح النوويّ الذي طالب أكثر من مسؤول إسرائيلي باللجوء إليه.

بدورها الصين التي تتابع ما يجري في أوكرانيا، لن تقبل بهزيمة روسيا، لأنّ ما تبيّته واشنطن لموسكو، تبيّته لبكين. وواقع الحال يقضي بوقوف الصين الى جانب روسيا لإفشال سياسة الهيمنة التي تريد واشنطن أن تفرضها على العالم .
حرب أوكرانيا والمشرق، سترسم خريطة جديدة للعالم بعد الحرب، لن تكون فيه الولايات المتحدة القطب الأوحد، وإنما ستنجم عنها أقطاب على الخريطة العالمية، ليقفوا في وجه الإمبراطورية المستبدة، التي تمارس وتجسّد في داخلها كلّ يوم سلوك وسياسات الدول الاستعمارية السابقة.
في غزة، تريد الولايات المتحدة وأوروبا و»إسرائيل» الاستمرار في الحرب حتى النهاية، فيما نتنياهو يطرح شروطاً تعجيزية لا تفسح المجال لوقف دائم لإطلاق النار قبل تحقيق أهدافه الكاملة، معوّلاً على حسم الأمر للميدان، دون التعويل على اجتماع الدوحة الذي سيكشف نيات نتنياهو الحقيقية، وإصراره على الاستمرار في الحرب التي يرى فيها المخرج الوحيد له لتنفيذ ما وعد به «الإسرائيليين»، وإنْ توسّعت الحرب الى حرب إقليمية ودولية!

د. عدنان منصور 
لبنان/ وزير الخارجية الأسبق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.