ومن القنافذ خذوها حكمةً في إدارة المسافات

المستشارة الدكتورة سلوى شعبان
0

لا تعيشوا ألم الإقتراب ولا صقيع الابتعاد..

يبقى الجميل في عينيك جميلاً ولطيفاً؛ لا تقترب منه كثيراً.. فالبعض أجمل من بعيد…. والبعض ألطف من بعيد، والصورة الجميلة تجذبك عن بعد وتطمح بين الحين والآخر بالإقتراب منها والتمتع بجمالها  فحافظ على المسافة بينك وبين الآخرين لتسعد بعلاقتك معهم ووصلك الآدمي الراقي والمستمر.

بيروت علمتنا الكتابة أن نترك مسافة بين الكلمة والكلمة لكي يفهم الآخرون معنى ما نكتب وتعطي الكلمة معناها المجرد عن أي دمج.. وعلمتنا حركة المرور وقوانينه أن نترك مسافة أيضاً بيننا وبين السيارة التي أمامنا؛ حتى لا نصطدم بها لنعبر بسلام وآمان. وكذلك علمتنا حركة الحياة والفيزياء أن نترك مسافة بيننا وبين الآخرين؛ حتى لا نصطدم بهم، أو نتصادم معهم بشكل فوضوي مؤذي.

هذه الفكرة أحيت في الذاكرة قصة رواها الفيلسوف الألماني شوبنهاور هي: مجموعة من القنافذ اقتربت من بعضها في إحدى ليالي الشتاء المتجمدة طلباً للدفء، وهرباً من الجو الجليدي شديد البرودة، لكنها لاحظت أنها كلما اقتربت من بعضها أكثر، كلما شعرت بوخز الأشواك التي تحيط بأجسادها، مما يسبب لها المزيد من الألم.. وأنها كلما ابتعدت عن بعضها البعض شعرت بالبرودة تجمد أطرافها، وبحاجتها للدفء في أحضان أصدقائها!.. بقوا على هذه الحال بين ألم الاقتراب، وصقيع الابتعاد والفرقة؛ إلى أن توصلوا إلى المسافة الآمنة الدافئة التي تقيهم من برودة الجو الجليدي القاسي وتضمن لهم أقل درجة من ألم وخز أشواك الإقتراب..

فلكل إنسان عيوبه وأشواكه الخاصة التي قد لا تظهر لك ولا تشعرك بألم وخزاتها إلا عندما تكون على مسافة قريبة منه… البعض يعتقد أنه كلما ازداد قرباً ممن يحبهم فإن هذا سيشعرهم بالسعادة، وهذا ليس صحيحاً على الدوام، فحتى الاهتمام الزائد والمفرط قد يفقد معناه وحميميته ويتحول إلى اختناق يشعر معه الآخرون بالضجر والتململ والتدخل السلبي الذي قد يتحول إلى نفور وكراهية وخاصة بين المحبين والعشاق؛ وبعلم النفس بتضح لنا ذلك من تحقيق الراحة والإستقلالية وضرورة الوحدة بين الحين والآخر.. فلكل إنسان خصوصيته وحدوده التي يحرص على أن يحترمها الآخرون مهما كانت درجة قرابتهم. لذا احرص على ضبط المسافة الآمنة  والمساحة الجغرافية  مع الآخرين حتى وإن كانوا أقرب الأشخاص لروحك.. هنا لن تخسرهم إن  احترمت خصوصيتهم وأعطيتهم متنفساً للحياة دون تطفل وتقييد.. بل ربما تكون علاقاتك الإنسانية أجمل وأكثر قدرة على النمو والازدهار والاستمرارية  فجميعنا بحاجة المسافة الكافية للنمو.

إدارة المسافات: فن يجب علينا تفهمه وإتقانه.. كن على مسافة مناسبة تسمح لك ولهم بالتنفس.. لا تقترب كثيرًا فتملَّكَ الناس، ولا تبتعد عنهم كثيراً فينْسَوْكَ وتبرد عواطفهم تجاهك وتصبح شخصاً عادياً في حياتهم. وتذكر دوماً أن ضبط المسافات من أكبر سنن هذا الكون ودلائل عظمته.. حركة  سير الكواكب الدقيقة مرتبطة باحترام المسافات التي خلقها الله بها.. فلو اقتربت الشمس منا ميلاً واحداً  لتحولت الأرض لدمارٍ واحتراق ، ولو ابتعدت عنا ميلاً لتجمدت بكل مافيها.

هناك حكمة شهيرة تقول “إن النجاح في العلاقات الإنسانية يكمن في إتقان فن المسافات فلا تقترب إلى حد إبصار العيوب وكشفها  ولا تبتعد إلى حد نسيان المحاسن ونكرانها”.

بقلم\ المستشارة الإعلامية الدكتورة سلوى شعبان

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.