لم تكن الاحتجاجات وأعمال العنف التي اندلعت يوم 17 أيلول الماضي، في محافظات عديدة في إيران، مردّه الى حجاب امرأة، حيث جعلت واشنطن من هذا الحجاب فرصة ذهبية لها، لتصفية حساب طال انتظاره، منذ قيام الثورة الإيرانية قبل 43 سنة حتى الآن.
لم تفوّت واشنطن ومعها حلفاؤها مناسبة إلا وكانت تثير مسألة الحريات وحقوق الإنسان في إيران، متجاهلة تماماً، أنها ما كانت يوماً إلا داعمة ومنشئة للأنظمة الدكتاتورية في العالم، التي تأتمر بها، وتلبّي مطالبها وأهدافها، وذلك بعد أن أطاحت بالأنظمة الوطنية الرافضة بالشكل والأساس للهيمنة الأميركية.
فالسلوك الأسود لواشنطن في هذا المجال، ترك آثاره البغيضة في القارات الأربع: أميركا، وأوروبا، وأفريقيا، وآسيا.
لم تكن إيران إلا واحدة من أبرز الدول التي عانت من السياسات العدائية لواشنطن التي فاقت كلّ الحدود والتوقعات.
شراسة الحصار الأميركي والعقوبات المفروضة على طهران على مدار العقود الأربعة، لم تفلح في تحقيق أهداف واشنطن الرئيسة في الإطاحة بالنظام الإيراني.
إنّ جوهر المشكلة بالنسبة لواشنطن وحلفائها، هو أنّ الدور المؤثر والفاعل للثورة االإيرانية لا يقتصر على المساحة الجغرافية لإيران. ولو كان كذلك، لما كان حجم الحصار، والسلوك الشرس ضدّ طهران ليأخذ هذا المنحى الخطير، وليضع الولايات المتحدة في مواجهة عدائية معها. عداء لم يتوقف يوماً، حيث لا يزال يتفاعل مع الوقت وتطورات الأحداث. إذ ترفض الولايات المتحدة بالمطلق، أن يكون في منطقة الشرق الأوسط، دولة تتعارض مع سياساتها، وأهدافها، وتهدّد مصالحها الأمنية، والاقتصادية والاستراتيجية في منطقة من أكثر المناطق أهمية في العالم.
واشنطن لا تريد عدوى رفض وتصدير طهران لسياساتها أن تتمدّد الى خارج إيران، لا سيما أنّ هذا البلد استطاع رغم الحصار والعقوبات الأممية، والأميركية الأحادية الجانب والتي أجبرت معظم دول العالم على الالتزام بها وتطبيقها، من أن يحقق إنجازات كبيرة في مختلف المجالات والميادين، رغم قساوة الحصار، ويثبت للعالم كله، ان لا مستحيل أمام إرادة، وعزيمة، وتصميم الشعوب على تحقيق أهدافها، وإنْ تكالبت عليها قوى الهيمنة والعدوان.
كم من المرات لوّحت واشنطن و”إسرائيل”، بالتهديد العسكري ضدّ إيران، التي لم تترك وسيلة إلا ولجأت اليها لتشويه صورة النظام، وشيطنته، منصّبة نفسها «حامية» للحريات، و”مدافعة” عن الديمقراطية في العالم، و”حريصة” على حقوق الإنسان فيه.
إيران كانت باستمرار في مواجهة حملات شرسة، مغرضة لا سابقة لها: حرب ثقافية نالت وتنال من تاريخها، وحضارتها، وتراثها، وتقاليدها، وقيمها الروحية، والفكرية، والفنية، وتشويه صورتها، ودورها، ومساهمتها في مسيرة التطور الحضاري والإنساني.
حرب أميركية أوروبية، سياسية، واقتصادية، ومالية، واستثمارية، وتجارية، فرضت على إيران لإنهاك اقتصادها، وشلّ قدراتها، بغية إرهاق الشعب في الداخل، ودفعه في ما بعد الى العصيان، والفوضى، واللجوء بمختلف الوسائل الى أعمال الشغب والعنف، والتخريب.
حرب نفسية إعلامية خبيثة مدروسة، لم تتوقف يوماً، جنّدت جيشاً من صحافيين، وكتاب، ومحطات تلفزة، وإذاعات، وجيوش الكترونية من أجل “تنظيم” الاحتجاجات، وتأجيج النعرات والاضطرابات. وهي تشهّر بالنظام، من خلال إنشاء وسائل إعلام وهمية، تبثّ معلومات كاذبة ملفقة عما يجري في الداخل الإيراني، عبر قنوات الانترنت التي تشمل الـ Twitter، وYou tube و Face book، و Instagram، و Telegram، حيث تتولى غرفة عمليات البنتاغون، إدارة الحرب الالكترونية ضدّ إيران التي تقع ضمن نطاق عمل القيادة المركزية الأميركية، وهي تركز جهودها الالكترونية على إيران التي تعتبرها واشنطن دولة معادية رئيسة لها.
لقد عمدت هذه الوسائل على تشويه صورة إيران في الداخل والخارج، ومكانتها في المنطقة، وتقويض سمعتها ونفوذها، من خلال بث الرعب، وتأليب المنطقة عليها، ونشر معلومات كاذبة لا أساس لها، حول إجراءات وممارسات غير إنسانية قامت بها في أفغانستان، والعراق، واليمن، وغيرها، بغية إيجاد بيئة معادية لإيران في العالم.
لم تتوقف هذه الوسائل عن التركيز على كلّ ما يثير ويحرك النعرات الطائفية والقومية، في الداخل، وتعزف على وتر كلّ ما يفرّق، ويؤجّج الخلافات، ويدفع بجماعات التخريب والشغب المعادية للنظام، التي تتعامل وتنسّق بشكل مباشر مع القوى الخارجية المعادية لإيران للقيام بتنفيذ ما هو مطلوب منها في الداخل الإيراني.
لعلّ الأخطر في هذه الحرب النفسية، ليس البرنامج النووي الإيراني، أو برنامج الصواريخ، أو الحصار الاقتصادي والمالي، إنما الحرب التي تستهدف وحدة إيران وسيادتها، وتمزيقها وتقسيمها، من خلال إثارة وتأجيج النزعات القومية، والعرقية والمذهبية، ودعم المجموعات والحركات الانفصالية، التي تحرّضها وتديرها الأيادي السود لدول خارجية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، و»إسرائيل»، وبعض دول المنطقة، التي توفر لها الدعم المالي، والعسكري، واللوجستي، والاستخباري. مع ما يرافق ذلك من حملات إعلامية عشوائية مركزة على النظام الإيراني.
بعد كل السياسات الفاشلة التي سلكتها الولايات المتحدة وحلفاؤها لإسقاط النظام الإيراني، كان على واشنطن أن تجعل هذه المرة من حجاب امرأة، فرصة ذهبية لها، لتفجير الوضع من الداخل، بعد أن عجزت عن تفجيره من الخارج، ومن ثم تصفية حسابها النهائي مع النظام وثورته.
إنّ المواجهة مستمرة بين النظام الذي أثبت على الأرض حجم تفاعل الجماهير معه، ووعيها، وإدراكها لما تبيّته قوى التسلط والعدوان في الخارج، وطوابير الشغب والتخريب في الداخل التي تحرّكها الأدوات الخارجية للدول التي تهدف الى القضاء على إيران الثورة ونظامها، واستفلالية قرارها السيادي وانجازاتها الكبيرة.
انها حرب استنزاف طويلة موجهة للداخل الإيراني، تريدها الولايات المتحدة، ومعها أوروبا، و»إسرائيل»، وكلّ من يسير في فلك واشنطن، أكان في الغرب، أم في المنطقة.
إيران التي أثبتت على الأرض صمودها اللافت، طيلة العقود الماضية في وجه العقوبات الدولية والأميركية الشرسة، قادرة اليوم على إفشال حرب الاستنزاف ضدّها، بعد أن كشف الشعب الإيراني حقيقة ما جرى منذ 16 أيلول وحتى اليوم، وما تحضره دول التسلط والعدوان ضدّ بلده، وهو الذي خبر جيداً افعالها وأهدافها، وما قامت به هذه الدول من تعدّ على سيادته، والتحكم بقراراته، واستغلال ونهب ثرواته الطبيعية على مدى عقود طويلة، الى أن جاءت الثورة الإيرانية لتضع حداً نهائياً لتسلط واستبداد هذه الدول واستغلالها.
واشنطن لم ولن تتوقف عن سياساتها المعادية لإيران، وإن أثبتت طهران خلال العقود الماضية أنها قادرة على الصمود، والتحدي، والمواجهة، وانها ماضية في تحصين جبهتها الداخلية وصون وحدتها الوطنية والقومية، وتعزيز قدراتها العسكرية والأمنية، ما يجعلها في كلّ وقت قادرة على إجهاض المؤامرات التي تحاك ضدّها، وإنْ كلفها ذلك الكثير من التضحيات.
متى تقرّ الولايات المتحدة، أنها أمام نظام دولة يثق ثقة كبيرة بشعبه وبنفسه، ويعرف حقيقة سياساتها الدامغة، وأنه نظام ليس كالأنظمة التي تعاطت معها واشنطن، كنظام باتيستا، وبينوشيه، وماركوس، ومحمد رضا بهلوي، وضياء الحق، وموبوتو، وحميد قرضاي، وصدام حسين، واللائحة تطول!
متى تقرّ واشنطن بأنّ إيران دولة إقليمية كبرى في الشرق الأوسط، يصعب تطويقها وتحجيمها، بعد ان أطاحت ثورتها بسياسات التسلط والاستبداد لقوى الهيمنة، وأثبتت للعالم كله، أنها محور رئيس في غربي آسيا، له حجمه البالغ لدى شعوب المنطقة، وهو يحتضن ويتفاعل معها، ومع قوى التحرر الوطني، وحركات المقاومة العاملة على التصدي للهيمنة الغربية، وإفشال سياسة التطبيع، وإزالة الاحتلال “الإسرائيلي” عن فلسطين.
أمام كلّ ما جرى ويجري اليوم في إيران، يبقى رهان الولايات المتحدة وحليفتها “اسرائيل” ومعهما الغرب وعملاؤه ومرتزقته، لإسقاط النظام الإيراني، بمثابة مقامرة خاسرة سلفاً، لن يحصدوا منها إلا الخيبة، وإنْ طال أمد حصارهم لها، واستنزافهم لنظامها وشعبها…
د. عدنان منصور
لبنان/ وزير الخارجية والمغتربين الأسبق