ما يقوم به جيش دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ السابع من تشرين الأول وحتى اليوم، من إبادة جماعيّة، وتدمير شامل لقطاع غزة، ليس مفاجئاً لكلّ من تتبع سلوك وأهداف الحركة الصهيونية، ومنظماتها الإرهابية في الثلاثينيّات والأربعينيّات، وبعيد إعلان قيام الكيان الإسرائيلي عام 1948.
إنّ الهدف الرئيس من العدوان على غزة، الذي يقوم به الجيش الإسرائيلي الذي يُعتبر الأكثر وحشية من جيوش عديدة شهد مجازرها العالم، هو اتباع سياسة التطهير العرقي لفلسطينيي غزة، على غرار ما اتبعته في القرن الماضي، المنظمات الصهيونية الإرهابية حيال القرى والمدن الفلسطينية، بغية السيطرة نهائياً على ما تبقى من الأراضي الفلسطينية التي بقيت خارج دولة الاحتلال، لضمّها إليها، وطي صفحة القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني نهائياً.
أسلوب الحرب، وارتكاب المجازر، والتطهير العرقي، وتجويع المواطنين الذي يرتقي الى جرائم الحرب، والتدمير الشامل الجاري اليوم في غزة، هو الأسلوب البربري الهمجي نفسه، مع فارق في الزمن، الذي اتبعته على الدوام العديد من المنظمات الصهيونية الإرهابية، على رأسها الأرغون، وشتيرن، والهاغانا، بحق الفلسطينيين، حيث كان الصهاينة في ذلك الحين بكامل استعدادهم وعدّتهم، وتدريبهم، وتجهيزهم، يملكون سلاحاً نوعياً متقدّماً نسبياً عن الذي كان في يد المقاومين الفلسطينيين. سلاح لم يكن كافياً كماً ونوعاً للتصدي للاجتياح الصهيوني للبلدات والقرى، وللإبادة الجماعيّة التي كانت تنفذها العصابات الصهيونية بحق الفلسطينيين.
كانت المنظمات الإرهابيّة المسلحة تطوّق القرى والبلدات من ثلاث جهات، ثم تقوم بتصفية غالبية سكانها، وبعد ذلك، تقوم بهدم منازلهم أمام أعين من تبقى منهم، حتى لا يفكروا يوماً بالعودة اليها. هكذا استطاعت المنظمات الإرهابية، إلقاء الرعب في صفوف المواطنين الفلسطينيين، وهي تقوم بتمشيط القرى والبلدات الفلسطينية بشكل ممنهج، وإكراه من ينجو من القتل على اللجوء الى الدول المجاورة، او الى ما تبقى من قرى فلسطينية.
ظلت الضفة الغربية، والقدس الشرقية، وقطاع غزة، هدفاً استراتيجياً لـ «إسرائيل»، لم يتخلّ عنه يوماً قادتها السياسيون، والعسكريون، والمدنيون، من أجل ضمّهم الى كيان الاحتلال، عندما تحين الفرصة المناسبة. وهذا ما نفذته «إسرائيل» بعد حرب الأيام الستة عام 1967، إذ قامت على الفور بالسيطرة على القدس الشرقية، وضمّها رسمياً الى كيانها بموجب قانون اتخذه الكنيست عام 1981، وبناء المستوطنات في الضفة والقطاع، لتغيير الديموغرافيا، واتباع سياسة القضم والضم للأراضي الفلسطينية فيها.
لم تتوقع «إسرائيل» يوماً، أنّ ما جرى في القرن الماضي، يستحيل الأخذ به في القرن الحادي والعشرين. لم تعُد القوة العسكرية محصورة بها، ولم تعد نوعية المقاتلين والخبرة في القتال مقتصرة عليها. ولم يعُد بإمكانها أن تفعل بالفلسطينيين كما فعلت في الماضي. هي اليوم أمام حقيقة لا يمكن تجاهلها أو الاستخفاف بها، والتي قلبت المقاييس لشعب مقاوم، أدرك ذاته، وامتلك إرادته، وعزّز قوته، وصمّم على استعادة أرضه، والتمسك بجذوره مهما غلا الثمن.
هو المقاوم الفلسطيني الذي لا يريد العدو الإسرائيلي أن يستوعب انّ التاريخ لم يتوقف عند قيام دولته المحتلة، وأن وقائع الماضي تغيّرت، وأنه اليوم أمام شعب، بعزيمة وإصرار، ووعي، وإرادة، ونوعية عالية، وأمام مقاومين أدهشوا العالم ببسالتهم، وإيمانهم العميق، وعشقهم الشديد للشهادة.
ليت القادة الإسرائيليون الذين يراهنون على الزمن، ويقامرون على وهن المقاومين في فلسطين ولبنان وغيره، يعلمون أنّ عشاق الشهادة، ليسوا كمن يعشقون بهرجة الدنيا، وأنّ المقاوم لتحرير أرضه، ليس كاللص الذي يحرص على حياته.
متى يدرك زعماء دولة الاحتلال، وقادة جيشهم الذي لا مثيل له في توحشه، وجرائمه، أنّ 75 عاماً لم تمح فلسطين من ذاكرة شعبها؟! متى يدركون أنّ استخدام القوة لا تولد الا المقاومة، وان «إسرائيل» لن تنعم بالأمن والسلام، طالما هناك شعب لم ولن يتخلى عن أرضه وحقه مهما طال الزمن؟! متى يدرك الصهاينة، أنّ المقاوم الشهيد يترك وراءه عشرات المقاومين يأخذون من بعده الراية من جديد، وأنّ أرحام أمهات المقاومين لن تنجب الا مقاومين أكثر إيماناً ووعياً، ومقاومة، وثأراً من المحتلين؟!
ليست غزة نهاية المطاف لـ «اسرائيل»، التي تريد أن تكون لها المحطة ما قبل الأخيرة (الضفة الغربية)، لاستكمال تطهيرها من الوجود الفلسطيني، وضمّها للكيان المحتل .
صراع من أجل الوجود يريده نتنياهو والقادة العسكريون، مدعوماً بغطاء من الدولة العظمى المستبدّة، وحلفائها الأوروبيين، وبضوء أخضر منها، كي يستمرّ حتى النهاية في تطهير غزة من سكانها، ومن ثم دفعهم وترحيلهم قسراً الى سيناء.
الشغل الشاغل «إسرائيل» اليوم هو تحرير المخطوفين المدنيين والعسكريين من خلال هدن إنسانية مؤقتة الواحدة تلو الأخرى، لحين تحرير جميع المخطوفين،
ثم تعود مجدّداً طليقة اليدين في الضغط على الغزاويين لترحيلهم قسراً خارج القطاع الى سيناء، وهي تراهن حتى اللحظات الأخيرة على مدى مناعة الموقف المبدئي للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الرافض لترحيل الفلسطينيين الى سيناء، وإمكانية تراجعه عن موقفه. تراجع لا يستبعده العدو نتيجة الضغوط السياسية، والإغراءات المالية المقدّمة لجهة شطب ديون مصر البالغة 165 مليار دولار. هذا التغيير في موقف مصر الذي تنتظره «إسرائيل» ولا تستبعده، بمعزل عن كيفية إخراجه من خلال الحجج والتبريرات اللاحقة للرئيس السيسي لشعبه، حيث تباركه الولايات المتحدة، وتعلق عليه الآمال الكبيرة تل أبيب، التي ترى فيه هدفاً استراتيجياً جوهرياً يحقق لها هدفها المباشر من العدوان على غزة.
غزة بعد انتهاء العدوان، لن تكون كما كانت عليه قبله. معادلات جديدة في المشرق ستظهر وفقاً لنتائج العدوان، ستترك تأثيرها المباشر على دول المنطقة وسياساتها المستقبلية. وأياً كانت هذه النتائج، سيبقى الشعب الفلسطيني حاضراً بكلّ قوة على أرضه وخارجها، مدعوماً بتأييد عالمي متزايد، وتعاطف عميق معه، ومع حقه في إقامة دولته الفلسطينية.
لم يحن الأوان بعد، لمغامري ومجرمي الحروب في «إسرائيل»، ان يقرّوا بحقيقة دامغة، وهي أنه ليس هناك من قوة على الأرض مهما علا شأنها، تستطيع أن تقضي على إرادة الفلسطينيين، أو تنتزع من جسدهم روح المقاومة، وعشق الشهادة من نفوسهم، وإن احتمت «إسرائيل» بجبهة دولية طاغية، داعمة لها من حلفاء، وقتلة، ومستبدين، وعملاء، ومرتزقة.
لن تقضي اعتداءات «إسرائيل»، وجرائم جيشها الأكثر همجية وتوحشاً في العالم، على عزيمة الفلسطينيين في تحرير أرضهم من المحتلين، ولن تكسر الإبادة الجماعيّة، والمعتقلات، إرادة الأحرار الذين سيظلون يلاحقون المحتلين الى عقر دارهم.
إنها عزة، ما كانت إلا غزة في قلب الصهاينة المحتلين، وهي تسطر تاريخاً مشرفاً يليق بكرامة وعنفوان شعبها، تصنع فجراً جديداً طال انتظاره، ترسم خيوطه الحمراء دماء الشهداء.
د. عدنان منصور
لبنان/ وزير الخارجية والمغتربين الأسبق