أن تؤخذ “إسرائيل” وتجرّ إلى محكمة العدل الدولية بسبب جرائمها ضد الإنسانية في قطاع غزة، فهذه خطوة شجاعة ومشرّفة قامت بها دولة جنوب أفريقيا التي قال زعيمها ومحرّرها يوماً، المناضل الأممي الكبير نيلسون مانديلا: إن حرية جنوب أفريقيا لن تكتمل دون حرية فلسطين. لقد أخذت جنوب أفريقيا ملف الإبادة الجماعية والتطهير العرقي إلى المحكمة الدولية في وقت صمت فيه زعماء عرب صمتاً مريباً، فغابوا عن الساحة الفلسطينية عمداً، إلا قلة شريفة منهم، بقيَت على العهد والوعد، آثرت أن لا تضيع البوصلة، وان تدافع حتى الرمق الأخير عن فلسطين، كي لا تمنى بنكبة ثانية تقضي على وجود شعبها، وعلى القضية برمتها.
إنّ العدوان المتواصل على غزة، او بالأحرى على فلسطين كلها، يحظى بدعم أميركي ـ أوروبي ـ عربي لا حدود له، فيما ظلّ الدعم الضمني او العلني لبعض “العرب”، بمثابة ضوء أخضر أعطي للعدو، كي يمعن في اتباع سياسة الدمار والإبادة، مستنداً الى دعم وتأييد أميركا ودول فاعلة مؤثرة في الاتحاد الأوروبي آثرت على الدوام الوقوف الى جانب دولة الاحتلال الإسرائيلي.
ما كانت “إسرائيل” لتعربد، وتفعل الذي تفعله، اليوم، لولا وجود متواطئين، ومطبّعين، ومتخاذلين، ومنتفعين، وعملاء، ومنافقين، ومتآمرين على الأمة وقضاياها، ومستقبل شعوبها وحريتها.
لقد ترك معظم العرب غزة فريسة لجيش الإرهاب الإسرائيلي، فلا جوع الأطفال وخز كرامتهم وشرفهم، ولا ريح القتر لجثث الأبرياء المحروقة هزّت ضميرهم، أو حركت فيهم الحد الأدنى من نخوة الجاهلية. كان صمتهم كصمت «أبو الهول»، فيما العدو يمعن في جرائمه الوحشية، لأنه يعرف بالدليل القاطع، أن الرجال على ساحة الأمة قد قلوا، وأن الأقزام الذين يقفون الى جانبه قد كثروا.
أمام هذا الواقع المرير، ما الذي ينتظره أحرار العرب بعد ذلك من الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ومجلس الأمن، ومحكمة العدل الدولية، وجامعة الدول العربية، او منظمة التعاون الإسلامي؟!
في مجلس الأمن طرحت واشنطن الفيتو على مشروع قرار يقضي بوقف إطلاق النار، بعد أن سبق للرئيس الأميركي بايدن أن طلب من مجلس النواب الأميركي تقديم مساعدة عاجلة لـ “إسرائيل”، والتي وافق عليها المجلس على الفور بمبلغ 14.3 مليار دولار !
استمرّ الدعم الأميركي المتواصل في المجال العسكري والاستخباري، والسياسي، والدبلوماسي حتى اللحظة، ولم يفارق دولة الاحتلال منذ نشوئها. دعم ترى فيه واشنطن انه يصبّ في إطار دفاع “إسرائيل” عن نفسها، غير عابئة بأكبر كارثة إنسانية يشهدها العالم. وهي لا تتردّد في تعطيل مشروع قرار لوقف إطلاق النار، رغم تدمير قطاع بأكمله وحصار وتجويع شعبه، وارتكاب أفظع المجازر التي أسفرت حتى الآن عن استشهاد وجرح مئة الف انسان.
واشنطن لا تريد وقفاً لإطلاق النار يشكل ضربة لـ “إسرائيل” التي لم تحقق من عدوانها على غزة حتى الآن، هدفها السياسي والأمني والاستراتيجي، لا سيما إذا جاء وقف إطلاق النار بالشكل الذي يرضي المقاومة في غزة، قبل ان يحقق العدو أهدافه من العدوان.
القرار الصادر عن محكمة العدل الدولية، يثير علامات استفهام رغم الإيجابيات التي تضمّنها. لأن المحكمة الدولية لم تدع الى وقف إطلاق النار، وإنهاء الحرب. وما طلبته من «إسرائيل» هو اتخاذ إجراءات لمنع الإبادة الجماعية في غزة والتحريض المباشر عليها، وكأنّ الإبادة الجماعية لم تحصل بعد! كما طلبت من “إسرائيل” “الالتزام بتجنّب كلّ ما يتعلق بالقتل والاعتداء والتدمير”.
إنّ استخدام المحكمة لعبارة «تجنّب» يعني أنّ فعل الإجرام الذي ارتكبته «إسرائيل» لم يحدث بعد، وإنما عليها أن تتجنب حصوله! فلا غرابة بعد ذلك، ان تقول الولايات المتحدة، ان قرار محكمة العدل الدولية بشأن الحرب بين “إسرائيل” وحماس، يتسق مع رؤية واشنطن، معنبرة أنّ “إسرائيل” لها الحق في اتخاذ إجراءات وفقاً للقانون الدولي، تضمّن عدم تكرار هجوم السابع من أكتوبر!
نتنياهو اعتبر ان الاتهامات الموجهة الى “إسرائيل” في محكمة العدل الدولية مشينة»، وانّ “إسرائيل” ستفعل كلّ ما هو ضروري للدفاع عن نفسها.
في ردّها السريع على قرار المحكمة الدولية، قامت “إسرائيل” في اليوم التالي بتكثيف عملياتها العسكرية المدمرة، وارتكبت المزيد من المجازر. وإمعاناً في جرائمها، وهي تمارس المزيد من الضغوط، وتشديد الحصار والخناق، وتجوبع سكان القطاع، اتهمت “إسرائيل” عناصر من موظفي الأونروا بضلوعهم مع حماس في عملية طوفان الاقصى، ما دفع على الفور بأميركا والمانيا وفرنسا وبريطانيا واليابان لتتلقف هذا الاتهام، وتتخذ قراراً تعسفياً يحجب المساعدات المقدمة من قبلهم للاونروا والتي تبلغ %57 من مجمل المساهمات المقدمة لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، الذين يعانون من ظروف قاتلة داخل المخيمات. ما جعل وقف التقديمات للاونروا، يزيد من مأساتهم الانسانية جراء عدم توفر أبسط مقومات الحياة من مسكن وغذاء ودواء وخدمات حيوية مختلفة. ان الهدف الحقيقي من تعليق مساهمة هذه الدول للاونروا، غايته فرض المزيد من الضغوط على فلسطينيي غزة، وعلى المفاوض الفلسطيني لانتزاع تنازلات كبيرة منه لصالح “إسرائيل”.
منذ عام 1948 وحتى عام 2023، قدمت الولايات المتحدة مساعدات لـ «إسرائيل»، أغلبها عسكرية بلغت 158 مليار دولار. وإذا احتسبنا معدل التضخم على مدى سنوات، فإنّ قيمتها في الوقت الحاضر تبلغ 260 مليار دولار، عدا التقديمات والهبات الأميركية الضخمة الأخرى المتنوعة.
هذا هو حال فلسطين، وبالذات غزة، بين جلاد إسرائيلي وداعم اميركي – اوروبي له، بين سندان محكمة العدل الدولية، ومطرقة مجلس الأمن الذي يعبث به الفيتو الاميركي.
فلا ننتظر خيراً من واشنطن، ولا قراراً من محكمة ولو بعد سنوات، تدين دولة الإرهاب، وتحمّلها المسؤولية الكاملة على ارتكابها مجازر وإبادة جماعية ضد الإنسانية. إذ أن مرتكب المجازر والراعي له، كلاهما واحد، يجمعهما سلوك موحّد، وقواسم تاريخية قبيحة مشتركة في العنصرية، والتوسع، والسيطرة، والقتل، والإبادة الجماعية، والإرهاب، والتطهير العرقي.
قبل أيام، وبعد قصف موقع عسكري أميركي في شمال شرق الأردن، أوْدى بحياة ثلاثة جنود أميركيين، وعدد من الجرحى، قال جو بايدن «ان قلب أميركا مثقل بمقتل هؤلاء الجنود»! إلا أن قلب بايدن وللأسف الشديد ظل جامداً، ومحنطاً إزاء أفظع إبادة جماعية بحق فلسطينيي غزة، تتمّ على يد جيش الإرهاب الإسرائيلي، بغطاء ورعاية الامبراطورية المستبدة، ليجيء عضو الكونغرس براين ماست يقول بكلّ كراهية وعنصرية: «سوف يكون هناك المزيد في غزة ليتمّ تدميره”.
نتنياهو وزمرته العسكرية مصمّم على الذهاب بعيداً في مجازره وإنّ طال الوقت، بغية القضاء على المقاومة في غزة، وترحيل شعبها ومقاوميها من القطاع، ومن ثم السيطرة العسكرية عليه، وضمّه لاحقاً الى دولة الاحتلال.
غزة اليوم على عتبة نكبة ثانية. فإذا كانت النكبة الأولى قد تمت على يد قوى الغرب الإستعمارية، فإنّ النكبة الثانية اذا ما حصلت، فإنها ستتمّ على يد العرب قبل غيرهم. إذ انهم المسؤولون الاول عما يجري، نظراً لما يملكون من اسباب القوة التي تجعلهم أن يتخذوا قراراً حازماً حاسماً ضد «إسرائيل» وحماتها، ويحبطوا أهدافها العدوانية التوسعية.
يُخشى من نكبة ثانية تطلّ برأسها من جديد، يعبّد طريقها هذه المرة حلفاء عرب طيّعون دائمون في خدمة واشنطن وتل أبيب!
د. عدنان منصور
وزير الخارجية والمغتربين الأسبق