منذ مائة وستين عاما، وبعد إنشاء عهد المتصرفية عام 1861، على يد الدول الأوروبية الست روسيا، بروسيا(ألمانيا)، ايطاليا ، النمسا، فرنسا وبريطانيا، يبدو أن الحكام والزعماء، ٱثروا في كل أزمة، على أن يرموا حملهم الثقيل على الدول الخارجية الكبرى، لتكون عونا ونصيرا ،وراعية لهم، وجالبة الحلول لمشاكلهم.
لم يتعلم القادة والمسؤولون اللبنانيون على مدى عقود، أن من ليس جديرا بالحكم وإدارة الدولة طيلة سنين، لن يستطيع الرهان على الغير ، إذ سيظل عاجزا، فاسحا المجال أمام الدول للتدخل في شؤون بلده الداخلية، ولتوجد موطئ قدم، تعزز نفوذها مصالحها فيه.
متى يتعلم اللبنانيون وزعماؤهم أن الحل الدائم لأي مشكلة تعترض طريقهم ، ينبع من الداخل، ولا يأتي من الخارج ،هذا اذا افترضنا ان المسؤولين هم على مستوى الأزمات ، والمسؤولية الوطنية.
متى يدرك زعماء هذا البلد، أن الحلول التي تأتي بها دول الخارج، حلول موضعية، ومفاعيلها مؤقتة، مخدرة، ما ان ينتهي مفعول المخدر، حتى تعود نوبات الشعب من جديد، لتدخل الوطن بعد ذلك في نفق مظلم، واتون صراعات وعداوات ،وكراهية واحقاد ،تفعل فعلها المدمر داخل المجتمع اللبناني، لتعيده الى الوراء، وتجعله يلهث من جديد ، وراء الحلول للخروج من أزماته.
اليوم ونحن أمام ازمة داخلية حادة ، تشكل تحديا كبيرا مباشرا للبنانيين في وحدتهم، وأمنهم ، ومعيشتهم وحياتهم، ومالهم، وصحتهم، ومستقبلهم، نسمع من حين الى ٱخر ، من ينادي ويرى في حل قضايا الوطن بالحياد، أو التدويل، او الفدرالية، حيث يجد فيها الحل الأمثل لمشاكل لبنان الداخلية.
ربما البعض لم يتعلم من عبر التاريخ وحقائق الجغرافيا ،ودروس الأحداث، وسلوك الدول الكبرى حيال الشعوب، وما فعلته بحقها خلال قرون، أثناء هيمنتها وتسلطها واستعمارها لبلدان عديدة في العالم، من ممارسات وسياسات أدت الى تقسيمها، وتقزيمها، وتحجيم البعض منها، وزرع بذور التفرقة والإنقسام داخل المجتمع. لتنبت في ما بعد العداوة، والكراهية التي تتغلغل في عقل الشعب الواحد.
لماذا نريد اللجوء للغير ونتركه في كل مرة يقرر عنا ؟؛ ألأننا قاصرون ! أم عاجزون ! أم فاشلون أو غير مؤهلين لبناء دولة وصون شعب؟! ألأننا غير قادرين على بناء وطن متماسك ومؤسسات سليمة، وارساء دولة القانون! أم لأننا غير مستعدين للتخلي عن انانياتنا، وعن مفاهيمنا الإقطاعية السياسية، والطائفية، والمناطقية، والإمتيازات الطبقية والمالية التي تتمتع بها حفنة متوحشة، ٱخر همها بناء دولة ،وحماية مؤسسات !! ام أننا ادمنا على الفشل، وعلى الزحف الى القوى الخارجية، كالطفل الذي يريد البقاء في حضن أمه؟! فمن أي نوع وأي جينة هي جينات زعماء لبنان الزمنيين والروحيين، وقادة الأحزاب الذين توالوا على الحكم، طيلة قرن من الزمن، ولم يستطيعوا أن يحافظوا على وحدة شعب ، واستقلال
وطن، وكرامة انسان من خلال مفهوم قومي وطني جامع موحد، لكل أطياف الشعب ومكوناته، وإرساء دولة المواطنة والقانون والحكم الرشيد!
إن الذين يطالبون اليوم بالحياد و التدويل والفدرالية، انما يضعون البلد أمام رياح ساخنة تلسع الجميع ، ويجرون اللبنانيين الى الفوضى، والتقسيم والإنتحار الجماعي، وإلى مواجهات داخلية ، ستكون نتائجها ولا شك ،مدمرة للجميع.
كيف يمكن سلخ لبنان عن واقعه القومي والجغرافي والتاريخي، وانتمائه الى منطقته المشرقية، فكرا، وسياسة، ونسيجا، وأمنا، وروحا، وجسدا ! وهل يتصور عاقل ان الحل للبنان يأتي عن طريق التدويل؟! وأي تدويل؟! هل الدول التي أنشات نظام المتصرفية مهدت وأسست لدولة متماسكة؟! وهل اسس الانتداب الفرنسي عام 1920، دولة المواطنة الحقيقية ،ام أسس لاعتبارات عديدة أرادها ،لدولة طائفية مفصلة على قياس محدد ، لا زلنا نحصد مشاكلها،
ومٱسيها، ورواسبها حتى وقتنا الحاضر! وهل اتفاق الطائف عام 1989، الذي جرى برعاية المملكة العربية السعودية، وفر للبنان في ما بعد ، الاستقرار السياسي، والوحدة الوطنية، والعيش الواحد، وبناء الدولة القادرة المقتدرة؟! لماذا نريد أن نشعر العالم اننا فاشلون، فاسدون، إنتهازيون، منافقون ،مراوغون وصوليون، حتى إذا ما انهالت المشاكل علينا، التي نحن السبب فيها، وعجزنا عن حلها، نجول على الدول الفاعلة المؤثرة، نستجديها لتقديم الترياق لنا؟!
إن مفعول حلول الخارج مؤقت، لانها ليست العلاج الملائم، ولا تعبر عن ارادة اللبنانيين، وواقعهم وتطلعاتهم القومية الوطنية،ولا تشخص المرض الذي يعاني منه اللبنانيون، وهو مرض متأصل يكمن في النظام الطائفي، والإقطاع السياسي، والمالي، والإقتصادي وغياب استقلالية القضاء، وعدم تحقيق الإنماء المتوازن، واستفحال الإحتكار للثروات والمشاريع، وحصرها في جيوب جهات معينة، والحاق الغبن بشريحة واسعة من ابناء الشعب.
إن الحل أيها السادة، يأتي من الداخل، ولا يأتي من الخارج. خذوا العبرة من الماضي البعيد والقريب، ولا تجروا الوطن والشعب الى الإنتحار الجماعي. فحذار حذار، حيث لن يكون هناك رابح مع أي حل سياسي يأتي من الدول الأجنبية أو غيرها، التي عانينا منها ،وعانت معنا دول المنطقة من سياساتها المستبدة، ومن زج نفسها في شؤوننا الداخلية، وابتزازها، وقيامها باستقطاب فئٱت وتحريضها على فئٱت أخرى .
إن الرهان على الخارج، والإستقواء به، والشحن الطائفي، وإثارة النعرات على مختلف الصعد وتأجيجها، لن يحقق للبنانيين الأمان والإستقرار، ولا الوحدة. بل سيجرهم الى المزيد من الفوضى والتخبط والإنهيار.
لبنان اليوم بغنى عن الطروحات المفخخة المتفجرة، لأن العلة تكمن في داخلنا، في العقول والنفوس، والسياسات البالية الفاشلة. فإن كنتم فعلا بها السادة، جادون وتريدون بناء وطن، فأزيحوا عن اكتافه نظامه الطائفي، وأقيموا الدولة العصرية القوية لتحافظوا على سيادة الوطن،وحماية ارضه وشعبه من أطماع “اسرائيل” في أرضه، وثرواته المائية والطاقوية، عندها لا داعي بتاتا للحياد الهش المشبوه، الذي سيكون عرضة في أي وقت للإهتزاز والتصدع. ولنا في ذلك عبرة من حياد بلجيكا واللوكسومبورغ، حيث لم يمنع هذا الحياد الجيش الألماني ،بعد عام واحد من اندلاع الحرب العالمية الاولى، من اجتياح اراضيهما واحتلالها أمام مرأى الدول الكبرى والعالم كله، الذي بقي مكتوف اليدين أمام المشهد الألماني.
إن من يتطلع ويراهن على التدويل ،والحياد، والفدراليةوالتقسيم، إنما يسير في عكس التيار، ولن يستطيع لا اليوم ولا الغد، تجنب الغرق. فلماذا تجاهل وقائع التاريخ، والإصرار على الانتقال من رحاب المنطقة المشرقية الى الملعب الضيق؟!
كيف يمكن سلخ لبنان عن محيطه بذريعة الحياد والتدويل والفدرالية التقسيمية ؟! ولماذا هذا الأنتقال من الفضاء الواسع، الى أجواء الغيتوات، والانعزالية، ولمصلحة من؟!
أيها السادة! إن بناء لبنان الواحد والحفاظ على سيادته واستقراره والبحث عن الحلول لأزماته ، لا تتحقق عبر القوى الكبرى، ولا عبر المؤتمرات الدولية، فعندما تلتزمون بروح الانتماء الجغرافي والقومي، والمواطنة الحقيقية، والعدالة الاجتماعية،
واحترام القانون وتطبيقه نصا وروحا، والسير به في مجال التنمية المستدامة، ووضع حد للإمتيازات الطبقية الظالمة، واستغلال اصحاب رؤوس الاموال، واستئصال الفساد من جذوره الذي أنتم سببه، وتتحملون مسؤوليته، وسن قانون انتخابي عصري، يؤدي الى تحجيم الإقطاع الانتخابي والسياسي، والمالي، ويتيح التمثيل العادل لمكونات المجتمع كافة ، ومشاركتها في صنع القرار السياسي والسيادي، والإقرار فعلا لا قولا بانتماء لبنان الى محيطه الجغرافي والقومي، والتفاعل معه تاريخا وسياسة واقتصادا وأمنا وواقعا، عندها لن يكون هناك من هواجس او خوف البعض من متغيرات ديموغرافية، او وجودية، تقلقهم وتشكل لهم هاجسا ووهما دائما، طالما ان الجميع سيكونوا تحت سقف الوطن الواحد، وفي ظل القانون العادل، ومتساوين أمام الحقوق والواحبات. حينئذ لن يكون هناك من دواع للمطالبة بالتدويل، أو بالحياد او بالفدرالية.
من يريد ان يلجأ للخارج، لن يبني بلدا ولن يصونه لا اليوم ولا غدا. وليكن في علم الجميع ،أنه لا يمكن لأي جهة داخلية، أو دولية في العالم ، مهما علا شأنها، أن تسلخ لبنان عن واقعه القومي والجغرافي والتاريخي، والامني، بذريعة أن التدويل، والفدرالية هما الحل الامثل لمشاكل لبنان.
إن قادة لبنان الزمنيين والروحيين أمام مسؤوليتهم التاريخية، وهم يشاهدون بلدهم يهوي ويترنح. إنهم مدعوّون الى أنقاذ الوطن والشعب من الداخل، والابتعاد عن الحسابات الخاطئة، والمصالح الفئوية الضيقة، والنزعات الإنعزالية، والرهانات الخاسرة، والدعوات الملغومة.
فإما أن يتوقفوا عن الجري وراء الدول الكبرى، والأعتماد عليها والرقص معها على ايقاع غيبوبة وطن، وإما على لبنان وشعبه السلام !!
الدكتور عدنان منصور
لبنان/ وزير الخارجية والمغتربين الأسبق