إن التجزئة السياسية التي أصابت الوطن والأمة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى والتي لا تزال مستمرة حتى الآن لم تحصل بسبب عوامل داخلية عربية، وإنما فرضها الاستعماريون بالقوة، وقامت على أنقاض وطن كان موحدا وعملت هي على تجزئته وقد كرست الحرب العالمية نتائجها التي جاءت لصالح الاستعمار، حيث جاءت تجزئة الوطن بما يتناقض مع الواقع الأساسي المتمثل في التكوين العربي الموحد.
وقد نتج عن هذه الحالة ضعف وتخلف وتبعية وفقدان العرب لقرارهم السيادي المستقل مثلما نتج عنها إصدار وعد بلفور في الثاني من شهر تشرين الثاني عام 1917م الذي نتج عنه زرع الكيان الصهيوني الغاصب في فلسطين العربية الذي يهدد الأمة العربية في أمنها وسيادتها وثرواتها عبر تكريس التجزئة التي كانت السبب الرئيسي في عدم الاستقرار العربي سياسيا واقتصاديا وامنيا واجتماعيا، حيث تم إلحاق الوطن العربي بالقوة العسكرية بعالم رأس المال والدول الغربية الاستعمارية والامبريالية حيث وقعت الأقطار العربية في قبضة الاستعمار المباشر وتم إقامة قواعد عسكرية وادارات استعمارية وعانت أقطار عربية من الاستعمار الاستيطاني في الشمال الإفريقي لمدة طويلة من الزمن بينما أصاب فلسطين القطر العربي العزيز على كل العرب استيطان صهيوني استعماري إحلالي عبر احتلال الأرض وتشريد أصحابها الأصليين، كما كان للتجزئة أثارها على الصعيد الثقافي والسياسي تجلت في الصراع بين النضال من اجل تحرر العرب من التجزئة والتبعية والخروج من التخلف والضعف وبين ثقافة استبقاء التبعية للقوى الاستعمارية وتعميقها.
كما كان من نتائج التجزئة أيضا عملية منظمة مارستها، وما زالت، الأنظمة العربية التابعة تتمثل في القضاء على المنظمات السياسية لابعاد المجتمع عن ممارسة النشاطات السياسية باستخدام كل السبل التي تحول دون المواطن العربي وانشغاله بالقضايا العامة بحيث يتم منعه وإبعاده عن المشاركة الفعلية والفاعلة في الحياة السياسية والنضال من اجل مواجهة المعاناة الاجتماعية بسبب سياسات الحكومات كما يهدف هذا الإبعاد المتعمد إلى إخفاء حقيقة تبعية أنظمة عربية للقوى الخارجية الذي يفقدها قرارها الوطني المستقل الذي يصب بالضرورة في القرار القومي المستقل. كما أسهمت هذه الأنظمة في الضغوطات الاستعمارية على الشعب العربي في معظم أقطار الأمة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا والتي هدفت إلى قبول حلول استعمارية للقضايا القومية يتناقض تطبيقها مع مصلحة الأمة العربية مما أدى إلى المزيد من الانقسامات وزيادة التبعية ومن ثم رفع التوتر السياسي والاجتماعي في القطر الواحد والتوتر بين العديد من الأقطار العربية وقد تجلى هذا الوضع في قضية الصراع العربي – الصهيوني والتحديات الأخرى التي واجهت وتواجه العرب وبخاصة تحدي إقدام الولايات المتحدة الأمريكية ومعها دول غربية أخرى على احتلال أجزاء من اقطار عربية، وبخاصة ليبيا، سورية، العراق واليمن والتدخل في الشؤون الداخلية لأقطار عربية أخرى مما أدى إلى صراعات وصلت إلى حد الاقتتال بين أبناء الشعب الواحد.
كما ان التحديات التي تواجه الوطن العربي والناتجة عن التجزئة وغياب القرار العربي المستقل لا، ولم تقتصر على المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية والعسكرية واحتلال الأرض بل تعدتها وتتعداها إلى تهديد المشروع القومي العربي وإفشاله بعد أن تعرضت الهوية العربية إلى إصابات خطيرة بسبب التدخلات الأجنبية والتحاق أنظمة بالدول الأجنبية وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية الشريك الأساسي للحركة الصهيونية والكيان الغاصب لأرض فلسطين العربية والذي يحتل أراض عربية أخرى سورية ولبنانية ويمارس التهديد تلو الأخر لأقطار عربية مثلما أن هذه القوى المعادية للأمة تقوم بتحريض دول إقليمية على العرب مما يهدد الأمن القومي العربي ومن الأمثلة الصارخة على هذا التحريض قيام قادة العدو الصهيوني ومعهم الإدارات الأمريكية بتحريض الدول الإفريقية المتشاركة في مياه النيل ضد مصر والسودان.
مثلما أدى غياب القرار العربي المستقل الناتج عن التجزئة وتعميق القطرية إلى غياب الإجماع العربي حول اعتبار القضية الفلسطينية، قضية العرب المركزية ومحور اهتماماتهم وعلاقاتهم الإقليمية والدولية وعلى اعتبار الكيان الصهيوني الغاصب العدو المركزي والخطر الرئيسي الذي يهدد الأمة وها نحن وبسبب التبعية السياسية للأجنبي نرى ان الإدارات الامريكية قد اعتبرت القدس العربية عاصمة للكيان الصهيوني مثلما اعتبرت الجولان العربي السوري المحتل تابع للكيان الصهيوني ووصل الامر الى حد اعتبار أنظمة عربية بأن الصهاينة لم يعودوا أعداء بل أن العداء لبعض العرب المتمثل في المقاومة العربية قد أصبح سائداً في سياسات بعض هذه الأنظمة ، كما أدت تبعية العديد من الأنظمة العربية مع الاستعمار الغربي إلى تدهور مكانة الأمة العربية وأقطار الوطن العربي في النظام العالمي.
ونتساءل: كيف يمكن أن نبني قوتنا العربية الذاتية إذا لم نمتلك الإرادة لتحرير قرارنا العربي ليصبح قرارا عربيا مستقلا يدافع عن الوطن والأمة؟ كيف يمكن مواجهة العرب التحديات الخطيرة وهم يعيشون حالة التجزئة وفقدانهم للإرادة بسبب ارتهان قرارهم للأجنبي؟ كيف يمكن أن تنجح التنمية العربية والاقتصاد العربي وهم يعتمدون في اقتصادهم على الخارج؟
لقد بات من الضروري جداً الاتجاه نحو العمل على إزالة الأسباب التي أوصلت الأمة إلى المأزق الذي تعيشه أقطارها ويأتي في مقدمتها إزالة التجزئة والفرقة والاتجاه نحو بناء وحدة الموقف العربي وهذا لا يمكن أن يتم في ظل فقدان العرب لقرارهم السيادي المستقل وفي ظل غياب الوحدة الوطنية داخل كل قطر عربي والتي يجب أن يناضل مجموع الشعب من اجل صيانتها على قاعدة المشروع الوطني والقومي من خلال النضال المجتمعي لبناء الديمقراطية القائمة على تمتع المواطنين بالحريات العامة بكل أشكالها واحترام حقوق الإنسان وانطلاق العمل الحزبي والعمل وفق مبدأ تداول السلطة، وإيجاد كل الأسس الضرورية التي لا بد منها للعودة لأمة موحدة أرضا وشعبا وثقافة ووعيا بالهوية والانتماء القومي وامتلاك القرار السيادي المستقل الذي يشكل الأساس والسياج الضروري الحامي للوجود القومي وتمكينه من النهوض والتقدم والوصول بالأمة إلى المنعة والقوة والقدرة على مواجهة التحديات والحفاظ على الأرض والثروات واستعادة المسلوب منها.
الأمين العام لحزب البعث العربي التقدمي
فؤاد دبور
الأردن