هاجر من لبنان وفي قلبه صراع ما بين البقاء والرحيل… البقاء عشقاً وتمسُّكاً بأرضه هرباً من مشاكل عائلية وواقع مجدب والأهم من الصراع التركي – الأوروبي الذي امتدت حوادثه الدامية من دمشق لتتأصَّل في أرضه.
ترك بشرّي، البلدة التي ولد فيها سنة 1883 وغادرها، بعدما تفتَّح وعيه وخياله، ليكون رحيله في 1895 إلى بوسطن، في الولايات المتحدة الأميركية حيث عاش ومات.
إنه جبران خليل جبران، الحكيم الذي وعلى الرغم من ان معظم كتبه وُضِعت بالإنكليزية إلا أن فلسفتها تعبق بالروح الشرقية.
لاحقته الأحداث التي هرب منها بآثارها، ما جعله يثور وينفعل ويغضب ويتألم بعد أن التمس مقدار ما دمَّر وقتل وخرَّب المحتل في أرضه، مثلما في دمشق، بل ليتضامن مع أخيه السوري، المناضل والثائر، دفاعاً عن أرضه وحريته وكرامته، وبصرخةٍ خلدتها مقالته التي نُشِرت في جريدة “السائح” العربية الصادرة في نيويورك، بتاريخ 25 أكتوبر/ تشرين الأول 1920.. وكان عنوانها:
“أخي السوري”
«يا أخي السوري.. أنت أخي لأنَّك سوري، والبلاد التي لفظتكَ كلمة في مسامع الأبدية قد همستني كلمة أخرى.. أنتَ أخي.. لأنَّ البلاد التي حبلتْ بكَ ولدتني والفضاء الذي حمل أول صرخة خرجت من أعماقك، حمل أول صرخة تمخَّصت بها أحشائي..
أنتَ أخي… لأنَّك مرآتي.. فكلَّما نظرت إلى وجهك رأيت ذاتي وبكلِّ ما فيها من العزم والضعف.. من الائتلاف والتشويش.. من الهجوع واليقظة..
أنت أخي، بكوارثِ خمسين قرناً.. بالقيودِ التي جرَّها آباؤنا وأجدادنا.. بالنيرِ الذي أثقل عاتقنا.. بالألم والدموع، ومن تجمعهم نكبات الدهور وأوجاعها لن تفرِّقهم أمجاد الدهور وأفراحها..
أنتَ أخي.. أمامَ قبور ماضينا وأمام مذبح مستقبلنا… أنت مصلوبٌ ولكن على صدري، فالمسامير التي تثقب كفِّيك وقدميك تخترق حجاب قلبي..
بالأمسِ وقد كان الضباب يغمر وجداني كنت ألومكَ وأعنِّفُكَ، واليوم وقد بُدِّدَ ذاك الظلام علمت أنني لم ألُمْ سوى ذاتي ولم أعنِّف غير نفسي، فما استهجنته بالأمس بك أراه اليوم بي, وما حاولتُ اقتلاعه من روحكَ وجدتُ عرقه متمسِّكاًٌ بروحي..
نحن متساويان في كلِّ ما جلبته الحياة إلى ماضينا، وكل ما ستجلبه إلى حاضرنا.. نحن متساويان وما الفرق بيننا سوى أنَّكَ كنتَ هادئاً، ساكناً أمام مصابكَ، بينما أنا كنتُ أصرخ متسرِّعاً.. قانطاً في مصابي..
غداً.. إذا ما مرَّ عابرُ طريقٍ بهذه الجلجلة لن يميِّز بين قطرات دمكَ وقطراتِ دمي، بل سيسير في طريقهِ قائلاً: ها هنا صُلب رجلٌ واحد…