لم تكتف الولايات المتحدة بسياساتها الاستفزازية حيال روسيا، منذ أن بدأت بتوسيع النطاق الجغرافي للحلف الأطلسي اعتباراً من عام 1999، الذي كان يضمّ في ذلك الحين 16 دولة، ليتمدّد في ما بعد، ويصل الى حدود روسيا، بعد أن ضمّت واشنطن الى الحلف ثلاث دول أوروبية عام 1999، وسبع دول عام 2004، وثلاث دول عام 2017، وأخيراً مقدونيا الشمالية عام 2020. بذلك يرتفع عدد أعضاء الحلف الأطلسي الى ثلاثين دولة، منها ما يلامس مباشرة روسيا.
لم تكتف واشنطن بهذا القدر، بل لجأت الى سياساتها الاقتصادية والمالية العدائية ضدّ موسكو، وآثرت على جرّ أوكرانيا الى فلكها وجعلها وقوداً لحرب استنزاف طويلة ضدّ روسيا بغية تحجيم وتعطيل مكانتها الأوروبية، والحدّ من دورها العالمي، ما يتيح لواشنطن عودتها مجدّداً للاستئثار بالقرار الدولي، والتربّع على عرش الأحادية القطبية العالمية.
بعد أربعين يوماً، ستنهي الحرب الأوكرانية عامها الأول، بعد أن زجّت واشنطن بدول الاتحاد الأوروبي، والحلف الأطلسي، في حرب غير مباشرة، كانت بغنى عنها. إذ كان على هذه الدول اليوم، أن تدفع الثمن الباهظ نتيجة انقيادها الأعمى لواشنطن، والتزامها بسياسات أميركا وقراراتها لعقود طويلة.
لم يكن مفاجئاً، أو غريباً، أو بعيداً عن الحقيقة الدامغة، حديث السياسي بيار ديغول، حفيد الزعيم الفرنسي شارل ديغول، العليم والخبير بحقيقة السياسة الأميركية أهدافها ومصالحها، وأبعادها، في مقابلة أجرتها معه مؤخراً، جمعية الصداقة الفرنسية الروسية في باريس جاء فيه: «إنّ روسيا تدافع عن نفسها ضدّ آلاف العقوبات والاستفزازات. وأنّ واشنطن ودول الناتو، هي من خطط للحرب باستخدام أوكرانيا لزعزعة أوروبا في محاولة لإنقاذ الهيمنة الأميركية المفقودة».
رغم أنّ واشنطن تعلم جيداً، كما دول الحلف الأطلسي، أنّ روسيا لم ولن تتراجع عن قرارها، أو تضحّي بأمنها القومي، ووحدة شعبها وأراضيها، حتى ولو ذهبت بعيداً في استخدام ما لديها من مقومات القوة والردع الكفيل بإحباط المؤامرة الأميركية ـ الأوروبية عليها، والمكشوفة للعالم كله.
واشنطن تخوض حرباً غير مباشرة ضدّ روسيا، وقودها الاقتصادات الأوروبية، والمتطوّعون، والمقامرون من قادة دول أوروبا، وعلى رأسهم المغفل رئيس أوكرانيا زيلينسكي، الذي كان السبب الأول في دمار بلاده وخرابها، بعد أن كان أداة طيّعة في يد واشنطن، والمنفذ لرغباتها.
أميركا لا يهمّها دمار أوكرانيا، أو سقوط عشرات آلاف القتلى نتيجة الحرب التي تريدها، او ضرب اقتصادات أوروبا. ما يهمّها أن تكون في زمن السلم والحرب صاحبة القرار الأول، والمستفيد الأول، والموجهة والمهيمنة على العالم.
واشنطن وضعت في حسابها خوض حرب استنزاف طويلة ضدّ روسيا، تزداد شراستها أكثر فأكثر قبل انتهاء فصل الشتاء في أوروبا وذوبان الثلوج فيها.
وهي تستعدّ لتقديم المزيد من الدعم العسكري والمالي المتواصل لكييف، وتوفير الكمّ الكافي من الأسلحة المتطورة، والدبابات وبطاريات الصواريخ لشلّ القدرات العسكرية الروسية، وإحباط مفاعيلها.
قرار الولايات المتحدة بمواجهة روسيا ودعمها لأوكرانيا، وتطويق خصومها في أنحاء عديدة من العالم، كشفته بصورة واضحة من خلال قانون الموازنة الفدرالية الأميركية لعام 2023. إذ لحظ القانون موازنة دفاع قدرها 858 مليار دولار بزيادة تبلغ 88 مليار دولار عن موازنة عام 2022 البالغة 778 مليار دولار، وهي أكبر ميزانية عسكرية في تاريخ الولايات المتحدة والعالم. إذ انّ الإنفاق العسكري الأميركي وحده يشكل %36 من مجمل الإنفاق العسكري في العالم كله البالغ 2 تريليون و113 مليار دولار عام 2021 وفقاً لبيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام SIPRI بموجب الموازنة العسكرية هذه، ستعمد واشنطن إلى تطوير البرامج النووية، وسيتمّ أيضاً تخصيص 45 مليار دولار مساعدات عسكرية، واقتصادية، وإنسانية لأوكرانيا.
كما لحظت الموازنة إنفاق 6 مليارات دولار من أجل تمويل مبادرة الاحتواء الأوروبية الموجهة ضدّ موسكو، وضرورة تقليل الاعتماد على موارد الطاقة الروسية.
يبقى ذلك أن ضغطت الولايات المتحدة على دول حلف الناتو لزيادة موازناتها العسكرية، بحيث انّ ثماني دول أعضاء في الحلف، خصصت %2 أو أكثر من الناتج المحلي على الإنفاق العسكري.
سياسة واشنطن والاتحاد الأوروبي، والعقوبات الاقتصادية، والتجارية، والمالية ضدّ روسيا نتيجة لحرب أوكرانيا، أدّت الى ارتفاع تكاليف الطاقة في دول الاتحاد الأوروبي 1.06 تريليون دولار عام 2022، وفقاً لتقرير بلومبورغ الأميركي، وهو تقرير يتوافق مع تقديرات صندوق النقد الدولي في هذا الشأن.
أميركا بتطلعاتها لعام 2023، ترصد أيضاً منطقة الشرق الأوسط بكلّ قوة، للحفاظ على مواقعها وتعزيز نفوذها. فالموازنة العسكرية الأميركية ركزت على الاهتمام بالمنطقة، والعمل على تشديد المراقبة على البرنامج النووي الإيراني، و»أذرع طهران» المسلحة، التي «تهدّد» حلفاء واشنطن، وعلى رأسهم «إسرائيل»، ومتابعة التطورات والقدرات النووية، والصاروخية، وبلورة استراتيجية فاعلة لتعميق وتقوية التعاون بين الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط، بغية رفع مستوى الجهوزية الدفاعية للتصدي لأنشطة إيران.
لم يغب شرق وجنوب شرق آسيا، لا سيما تايوان عن قلق واهتمام واشنطن بها. ففي 8 كانون الأول عام 2022، أقرّ مجلس النواب الأميركي قانوناً، يمنح بموجبه مساعدات عسكرية، ومبيعات أسلحة لتايوان بقيمة 10 مليارات دولار. وقد اعتبر رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ بوب ميننديز Bob Menendez انّ هذا القانون «سيعزز الى حدّ بعيد شراكة الولايات المتحدة الدفاعية مع تايوان». مع العلم انّ هذا القانون قبل تعديله كان يلحظ منح تايوان وضع «حليف كبير خارج الحلف الأطلسي»، مما كان سيشكل تحدياً كبيراً واستفزازاً مباشراً للصين، التي شهدت علاقاتها مع واشنطن تدهوراً ملحوظاً في السنوات الاخيرة.
واشنطن في عام 2023، تكشر عن أنيابها من جديد، مندفعة لملء الفراغ الذي تركته في أكثر من مكان في العالم، ولاستعادة دورها الأحادي ونفوذها الواسع والمهيمن على العالم، الذي يشهد تراجعاً عاماً بعد عام، مع بروز قوى دولية كبرى بدأت تشكل لها تحدياً خطيراً لإزاحتها عن زعامتها العالمية التي كانت ولفترة قصيرة دون منازع.
شهية الولايات المتحدة على الحروب منذ نشوئها، شهية لا حدود لها، ولم تتوقف على مساحة العالم كله. فمن حرب الى حرب تتنقل، ولا ندري ما الذي تخبّئه في جعبتها وهي تستعدّ عام 2023 للمغامرة في أكثر من مكان في العالم، بعد أن سبق لها أن كانت العلة في دمار وخراب العديد من البلدان، وما أوكرانيا إلا آخرها، والباقي على الطريق…
د. عدنان منصور
لبنان/ وزير الخارجية والمغتربين الأسبق