منذ أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، ابتُلي السودان بسلسلة من الانقلابات العسكرية، دشنها لأول مرة الفريق إبراهيم عبود عام 1958، لينهي حكم إسماعيل الأزهري، ويتسلم السلطة حتى عام 1964. في هذا العام قامت ثورة شعبية، أطاحت بحكم عبود، وعاد على إثرها اسماعيل الأزهري الى السلطة من جديد، ليتولى رئاسة مجلس السيادة بين عامي 1964 و1969. سقط حكم الأزهري على يد الفريق جعفر النميري الذي قاد انقلاباً عسكرياً أنهى الوضع القائم، وبقي في الحكم حتى عام 1985، حيث اندلعت ثورة شعبية عارمة ضدّه فما كان على المشير سوار الذهب إلا أن يحسم الموقف، ويلبّي رغبة الشعب في تغيير الحكم العسكري واستبداله بحكم ديمقراطي مدني.
تسلم سوار الذهب السلطة، ووعد بحكم البلاد لفترة انتقالية محدّدة بسنة، تجري خلالها تعديلات في الدستور، ثم بعد ذلك إجراء انتخابات واسعة. كان سوار الذهب نموذجاً فريداً بين القادة السودانيين والعرب على الإطلاق، الذي وعد ووفى، وتخلى عن السلطة للحزب الفائز في الانتخابات التي جرت، رغم أنه كان يتمتع بصدقية كبيرة، وبشعبية واسعة النطاق. بعد إجراء الانتخابات، قام سوار الذهب بحلّ المجلس الانتقالي العسكري والحكومة وتسليم السلطة للمدنيين.
كان الانقلابيّ الأول الفريق ابراهيم عبود يهدف الى دمج السودان وتوحيده ثقافياً واجتماعياً بغية ترسيخ هوية سودانية موحدة للجميع في ما بعد. إلا أنّ محاولاته لم تسفر عن نتيجة إيجابية كان يتوخاها. وهذا بسبب استمرار الصراع وحدّته في الداخل، بالإضافة الى تدخل دول الغرب بشكل واضح وسافر في الشأن السوداني، وسياساته الداعمة علنياً للقوى الانفصالية في الجنوب.
أدّى الوضع السائد أيام حكم إبراهيم عبود، الى تدويل قضية جنوب السودان بضغط من الفاتيكان، وبعض الدول الغربية، في الوقت الذي بدأ فيه قادة التمرّد في الجنوب عملياتهم العسكرية ضدّ السلطة المركزية في الخرطوم، متخذين من دول الجوار منطلقاً، وقواعد تدريب، ومقارّ لهم ولهجماتهم ضدّ الجيش السوداني.
لم تكن «إسرائيل» بعيدة عن تدخّلها ومراقبتها للأوضاع في السودان ومشاكله، وللتطورات والأحداث الجارية فيه. هذا الاهتمام الشديد عبّرت عنه بعد حرب حزيران 1967، غولدا مائير رئيسة وزراء «إسرائيل» بقولها بصورة واضحة وصريحة، إنّ إضعاف العراق والسودان يتطلب إثارة النعرات الطائفية فيهما، لينال من وحدة البلدين، وكشف العمق الاستراتيجي لدول المواجهة (مصر)، وجعله مزعزعاً في أيّ مواجهة مقبلة مع «إسرائيل».
وقد حرّضت «إسرائيل» وعزفت على الوتر الديني والقبلي الحساس مع الحركات الانفصاليّة السودانيّة كافة، لا سيما أحزاب الجنوب، إذ كان جلّ اهتمامها ينصبّ ويركّز على تقسيم السودان، وهو تقسيم كشف عنه لاحقاً أبراهام (آفي) موشي ديختر Moshe Dichter عضو الكنيست عن حزب كاديما عام 2005، رئيس جهاز الشاباك بين عامي 2000 و 2005، وزير الأمن «الإسرائيلي» بين عامي 2006
و2009، في محاضرة له عام 2008 جاء فيها: «إن اهتمام «إسرائيل» بالسودان هو كونه بموارده ومساحته الشاسعة، وعدد سكانه، من المحتمل أن يصبح قوة مضاعفة إلى قوة العالم العربي. لأنّ موارده إذا استثمرت في ظلّ أوضاع مستقرة، ستجعل منه قوة يُحسَب لها ألف حساب».
لم يقتصر تدخل «إسرائيل» في جنوب السودان فقط، بل قامت أيضاً بنسج علاقات مع العديد من الزعماء والفصائل السياسية والعسكرية السودانية منذ عام 1954 في أكثر من إقليم سوداني، لا سيما في إقليم دارفور الغني بالنفط والذهب واليورانيوم وغيره من الثروات، لدفعه للانفصال والتقسيم… وهذا ما أشار اليه أيضاً موشي ديختر في محاضرة له نشرتها الصحف الإسرائيلية في تشرين الأول عام 2008، يقول فيها: «الاستراتيجية التي نفذناها في جنوب السودان، نجحت في تغيير اتجاه السودان نحو التأزم والانقسام. وستنتهي الصراعات بتقسيمه الى كيانات عدة. إنّ قدراً كبيراً تحقق في الجنوب، ولدينا فرصة لتحقيقه في دارفور»!
مؤسس حركة جنوب السودان جون غرنغ، كشف لاحقاً عن دور «إسرائيل» في انفصال جنوب السودان، معتبراً أنها وضعت الحجر الأساس لانفصاله.
ما قام به الفريق عبد الفتاح برهان الذي قاد الانقلاب الأخير في السودان، والذي قام بتطبيع العلاقات مع «إسرائيل»، مدّعياً ومبرّراً أنها لعبت دوراً كبيراً في إقناع الولايات المتحدة ىإزالة اسم السودان عن لائحة الإرهاب، لم يكن إلا طعماً ساماً، لم ولن يوفر للسودان الأمن والاستقرار والرخاء. والأهمّ من كلّ ذلك، ما يحضّره الغرب و»إسرائيل» حيال ما تبقى من وحدة الأراضي السودانية.
للأسف، منذ ستة عقود والسودان يتخبّط بمشاكله، فيما زعماؤه لا يعرفون ما الذي يريده الغرب منهم، وما يبيّته لهم، بينما بلدهم غارق في بحر من المشاكل، وجلّ همّهم، وغايتهم، وهدفهم الوحيد هو الوصول الى السلطة والحكم والنفوذ، ولا شيء غير السلطة التي توفر لهم الامتيازات والنفوذ، والثروات الشخصية.
إذا كانت الولايات المتحدة ودول غربية أخرى ومعها «إسرائيل» بالدرجة الأولى، يدركون جيداً ما حققوه في السودان، إلا انّ القادة السودانيين والزعماء العرب فشلوا حتى الآن في إنقاذ السودان، ومساعدته من أجل صون سيادته ووحدة أراضيه، ووقف انهياره، وإفشال خطط تقسيمه، وإخراجه من دوامة الانقلابات، والفوضى والنزاعات المسلحة، وأيضاً عجزهم عن الحفاظ على الأمن القومي العربي. إذ انّ الخلافات العربية بشأن السودان، والمواقف المتباينة في ما بينهم صبّت الزيت على النار، لتحول دون استقراره، ووحدة أرضه، وسلامة شعبه، فبقي البلد يتخبّط بمشاكله، ويسجل الانهيار تلو الانهيار، فيما الثعلب «الإسرائيلي» يراقب من خلف الستار يحقق أهدافه ويبتهج لإنجازاته.
متى يعي العرب حقيقة ما يجري على أرضهم، وما يبيّته الأعداء لهم؟
مأساة السودان لا تختلف في الجوهر عن مآسي دول عربية أخرى تواجه العدو ذاته الذي يعرف ما يريده منها، فيما هي لا تعرف ما الذي تريده منه، وكيف تواجه مؤامراته المدمّرة التي لا تتوقف بحقه وتحبطها.
منذ استقلال النيلين، لم تتوقف شهية الانقلابيين السودانيين للسلطة والحكم، مهما كانت تبريراتهم وذرائعهم البراقة. منذ عام 1958، والسودان ينتقل من فوضى الى فوضى أخرى، ومن انقلاب الى انقلاب آخر، ومن حكم الى حكم، مع كلّ ما رافق هذه الانقلابات من أحداث وصراعات دموية، لم توفر للشعب السوداني حتى اليوم سوى الفقر، والاستقرار والمعارك، والكراهية بين أبناء الشعب الواحد، والانهيار الاقتصادي، والاجتماعي والمعيشي المتواصل. الأخطر من كلّ ذلك، جعله على مشرحة التقسيم بعد أن وضع انقلابيّوه على مدى عقود، المشرط بيد الغرب و»إسرائيل»!
بعد انفصال الجنوب عن الشمال، تقلصت مساحة السودان من 2.5 مليون كلم2، الى 1 مليون و882 ألف كلم2، بفقدان 620 الف كلم2. ولا نعرف ما يخبّئه مشرط الغرب واميركا، وما تبيّته «إسرائيل»، وهم يضعون السودان على المشرحة من جديد، وكم سيفقد من مساحته المتبقية!
إنها مأساة السودان منذ عقود، لا تزال تتفاعل وتأخذ المنحى الأخطر، بفعل الصراع والانقسام الحادّ في الداخل، وارتباط زعمائه بالخارج، ما جعل البلد التعيس كرة تتقاذفه أقدام المتنافسين المحليين، والإقليميين، والدوليين على ساحته، لا سيما أنّ الثروات الهائلة التي يمتلكها، ولا يتنعّم بها، تسيل على الدوام لعاب القوى العالمية الفاعلة التي تتزاحم على ثروات القارة السمراء، وبالذات ثروات السودان…!
د. عدنان منصور
لبنان/ وزير الخارجية والمغتربين الأسبق