عندما اتخذت الجامعة العربية بدولها، باستثناء لبنان، قرارها رقم 7438 تاريخ 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011 بتعليق مشاركة وفود سورية في اجتماعات الجامعة، والمنظمات والأجهزة التابعة لها، حذرنا على الفور، بمداخلة عن تداعيات هذا القرار الخطير، وتساءلنا داخل قاعة المؤتمر أمام وفود الدول العربية وعرّابي قرارها: “ما الذي نريده هنا من سورية؟! وهل نريد فعلاً مساعدتها على الخروج من أزمتها، والمحافظة على وحدتها، وسيادتها، وأمنها، واستقرارها، وأمن واستقرار وسيادة المنطقة؟! أم أننا نريد جرّها الى ما يريده الآخرون، وإلى من يريد أن يجعل نفسه حصان طروادة، ليمهّد الطريق أمام التدخل الأجنبي الذي يروّج له منذ بداية الأحداث في سورية لتدويل الأزمة، وهو التدويل الذي رفضناه بكلّ قوة في اجتماعاتنا السابقة؟!
… إننا مسؤولون أمام الله وأمام شعوبنا، فحذار حذار السماح بتأجيج النار التي لن توفر أحداً، والتي ستلتهم الجميع، وحذار ترك سورية من دون الوقوف بحزم حيال ما يُحضّر لها في الداخل والخارج، من مؤامرات مكشوفة وتحريضات مغرضة، وحملات إعلامية شرسة هدامة (…) لا تدعوا سورية تضيع أمام أعيننا ويتلاشى دورها، ومكانتها، وبريقها، ووحدتها كما تلاشت أمام أعين جامعتنا العربية أكثر من قضية جوهرية منذ تأسيسها وحتى اليوم…
منذ الاجتماع الأول كنا نشتمّ رائحة تعليق مشاركة سورية في اجتماعات الجامعة، وكنا نغالط أنفسنا المرة تلو المرة، لكن ما يطرح اليوم لهو الدليل القاطع على حقيقة وصحة ما كنا نتوقعه… إنّ ما نريده اليوم هو أن نعي حقيقة وحجم ما يجري في سورية ـ وما يترتب علينا، وأن يكون قرارنا إنقاذ سورية وشعبها من المجهول الذي لن يخدم سوى قوى التسلط وعدو الأمة الأول. وبناء على ما تقدّم فإننا نعترض ونرفض تعليق عضوية سورية، لأنّ ذلك لن يخرجها من أزمتها، وإنما سيُعقد الأمور أكثر فأكثر، ولن يؤدّي الى الحلّ الذي نتطلع اليه جميعا، ألا وهو الأمن والاستقرار وعودة الحياة الى طبيعتها ووحدة وسلامة سورية…”.
بعد سنة ونصف السنة من قرار العرب الخطيئة، وعجز دولهم وفشلهم في تحقيق السلام والحلّ السياسي، وانغماسهم المباشر في الحرب القذرة على سورية، وإغراقها في الدماء والدمار، كان لا بدّ من إطلاق الصيحة أثناء دورتها العادية وتسليم لبنان رئاسة المجلس الوزاري العربي لمصر يوم 6 آذار 2013، قائلا: “… إنّ الازمة السورية تقلقنا جميعاً، حيث نقف أمامها عاجزين عن تحقيق الحلّ السياسي… إذ نثبت للعالم أننا فشلنا في ذلك. وكلّ ما نجحنا فيه، هو تعليق مشاركة سورية في اجتماعات الجامعة العربية… فلنُعِد سورية الى حضن جامعتها، ولنرفع تعليق مشاركتها. فالتواصل معها لإنقاذها واحتضانها من جديد ضرورة من أجل الحلّ السياسي. فلهيب الحرب الذي يطال سورية اليوم، وكذلك الحركات التكفيرية التي تضرب في كلّ مكان، إنْ لم نخمدها ونضع حداً لها، سيمتدّ لهيبها غداً الى ديارنا جميعا”.
اليوم وقد مضى اثني عشر عاماً على غياب سورية عن الجامعة، لا يصحّ إلا الصحيح. ما أراده البعض لسورية من خلال تقديم مختلف وسائل الدعم المادي والعسكري، والمالي، واللوجستي، والبشري، بغية الإطاحة بالنظام وإسقاطه، تحطم على أبواب دمشق، نتيجة الصمود الأسطوري للقيادة السياسية والجيش والشعب السوري الذين واجهوا ببسالة قلّ نظيرها في العالم كله، أبشع حرب مدمّرة حرّكتها قوى إقليمية، ما كانت إلا في خدمة قوى الهيمنة الدولية، ليأتي بعد ذلك من يقرّ بجريمته ليقول: “طُلب منا ذلك!”.
لا تكفي اليوم عودة العرب الى سورية، والتاريخ لن يمحو حقبة سوداء، وخطيئة كبرى ارتكبها بعض العرب متعمّدين او مكرهين بحق دولة عربية، ما كانت إلا قلب الأمة ونبضها وبوصلتها، وحاملة قضاياها القومية، والمدافعة عن حقوق شعوبها.
بعد هذه الحرب القذرة وتداعياتها الكارثية على سورية، يتساءل كل مواطن عربي حرّ بمرارة ما بعدها مرارة، من يعيد الشهداء الى ذويهم، والذين سقطوا على يد فصائل الإرهاب المدعومة من قبل الذين ادّعوا انه “طُلب منهم ذلك”؟! من يُعيد ملايين النازحين الذين دمّرت بيوتهم الى بلادهم؟! من يُعيد بناء عشرات الآلاف من المصانع، والمدارس، والمؤسسات، والبنى التحتية المدمّرة؟!
من يُعيد عشرات الأماكن الأثرية التي تشكل ثروة إنسانية نادرة، تحكي تاريخ وحضارة سورية الى وضعها السابق بعد أن هدمتها عمداً أيادي الإرهابيين؟! من الذي سيُوفر الحياة الكريمة لعشرات الآلاف من أبناء شعبها الذين شوّهتهم آلة الحرب؟! من الذي سيُعيد بناء سورية من جديد، ويُوفر لها الأموال اللازمة للانطلاق مجدداً في تنميتها المستدامة، التي كانت تسير بها بخطى متقدّمة قبل أن تلتهمها نيران الحرب التي أشعلتها وأنفقت عليها الخزائن المالية للمقامرين، والمغامرين بسورية وشعبها دون حدود؟! ومَن ومَن ومَن؟! فيما المطالب كثيرة، والاستحقاقات والضغوط كبيرة!
لا يكفي مطلقاً عودة العرب إلى سورية. ما يهمّ في الوقت الحاضر، هو مراجعة ما حققوه من “إنجازات عظيمة” وما فعلوه ظلماً وعدواناً بحقها وحق شعبها وأمتها.
إنّ مسؤولية إعادة بناء سورية تقع على عاتق كلّ الذين أشعلوا الحرب، وحرّضوا وموّلوا، ودعموا، وخطّطوا، وسلّحوا واحتضنوا القوى المسلحة المتطرفة والإرهابية للنيل منها. فالذين أنفقوا ـ وباعترافهم العلني ـ مئات المليارات من الدولارات على إشعال الحرب وتأجيجها، و”تهاوشوا على الطريدة” عليهم أن يدفعوا اليوم لسورية تعويضاً كاملاً عما ارتكبوه بحقها.
يوم طالبنا الجامعة العربية في اجتماع دورتها العادية يوم 6 آذار عام 2013، بإعادة سورية الى حضن جامعتها، خرجت على الفور، وكالعادة في لبنان، الدبابير والثعابين، من أوكارها، مأجورين، ومنافقين، ووصوليّين، وعملاء، ومرتزقة، من الذين اعتبروا طلبنا جريمة، وخيانة، وهم الذين ما كانوا يوماً إلا المتسكعين والمنبطحين على أبواب دمشق، يمطرونها ويمطرون رئيسها بالمديح والكلام المنافق، مستجدين موقعاً، ومنصباً، وبركة، ونعمة، ورعاية، حتى إذا ما جُرحت سورية وقت الشدة، انقضّوا عليها كالذئاب المسعورة بحقدهم الدفين، وبصيرتهم العمياء وسهامهم المسمومة!
لقد ساءتهم مطالبة وزير الخارجية اللبناني عدنان منصور حينذاك بإعادة سورية الى الجامعة، فصبّوا جامّ غضبهم وحقدهم عليه، منهم عمي البصيرة حين وصفوه “بوزير خارجية سورية وإيران”، و “بالوديعة السورية”، ومنهم مَن طالب بإقالته، ومنهم من وصفه “بالناطق الرسمي باسم النظام السوري بتفويض وتكليف من إيران وحزب الله”!! والأحقر من كلّ هؤلاء جميعاً وبصفة خاصة اثنان: الكريه الأول قال: “ان ليس لدينا وزير خارجية بل عميل سوريّ”! وقول الكريه الثاني الحافل سجله بالخيانة مع بصمة إسرائيلية، في كلمة له أثناء تخريج طلاب مهنية دار اليتيم في صيدا: “مَن يقرأ خطابه (عدنان منصور) في اجتماعات وزراء خارجية الدول العربية بالأمس، لا يمكن أن يرى فيه إلا وأنه وزير خارجية إيران، ولا علاقة له لا بلبنان ولا بالعروبة”! لقد غاب عن هذا الكريه أنّ عروبتي أستمدّها من أمتي ولا أستمدّها من موقع “فيلكا”!.
بعد كلّ التحوّلات والمتغيّرات في المنطقة، ما الذي سيقوله المنافقون، المنبطحون، المرتزقون في لبنان، وقد عاد العرب اليوم الى سورية، وبقيت الشام وبقي الأسد في عرينه؟! وما الذي سيتقيأ به بعد ذلك تجار وفجار السياسة ومقاولوها في لبنان، ومعهم الخدم المتسكعون على أبواب السفارات، من انتهازيين، ومرتزقة، ومأجورين وعملاء؟!
عودوا الى سجل تصريحاتهم حيال سورية وقيادتها قبل 2005، وبعد 2005، وعودوا إلى وثائق ويكليكس وسيعلم القاصي والداني أيّ مستوى من الحقارة، وانحطاط الأخلاق، وعدم الوفاء، والتكاذب، والتذبذب في المواقف الذي يتحلّى به هؤلاء المنافقون!
سورية التي قاومت، وصمدت، وانتصرت، قدرها أن تبقى، وستبقى. هذا هو تاريخها الحافل بالنضال، وما الأعداء، والحاقدون، والعملاء، الذين أرادوا منها مقتلاً، ما كانوا إلا الغبار الذي يتبدّد دائماً على سفوح قاسيون…
د. عدنان منصور
لبنان/ وزير الخارجية والمغتربين الأسبق