حتى الوقت الراهن، لم تنته العنصرية بكلّ أشكالها التي مارستها الدول الاستعمارية على مدار قرون ضدّ الشعوب المضطهدة قبل نيل استقلالها.
بل آثرت هذه الدول في ما بعد، الاستمرار في نهجها العنصري القبيح الذي لازم سياساتها بحق هذه الشعوب، والنيل من قيمها، ومبادئها، وتاريخها، وتراثها، والتشويه المتعمّد لحضارتها، ومعتقداتها، وأديانها، ومقدّساتها.
ما جرى في السويد قبل أيام من تمزيق للقرآن الكريم والعبث به، على يد حاقد عنصري متحجّر، ليس إلا حلقة من حلقات العنصرية التي دعمتها دول أوروبية وغربية تحت ستار حرية الرأي والتعبير!
هذا الغرب المنافق الذي يفسح المجال للإسلاموفوبيا أن تفعل فعلها، أكان ذلك في فرنسا، أو ألمانيا، أو الدانمارك، أو كندا، أو السويد، أو «إسرائيل» وغيرها من الدول، دون أيّ رادع، فيما هو يتشدّق ويتمسّك بحرية الرأي والتعبير، لإضفاء الشرعية، وإعطاء الحق القانوني لكلّ من يمسّ بالمعتقدات والمقدسات، ويسيء إلى الأديان على اختلافها.
حرية الرأي والتعبير تختفي للأسف الشديد عند دول الغرب، لتصبح من المحرّمات إذا ما حاول أحد ما تسليط الضوء على أحداث فترة من التاريخ، وكشف المعلومات المزيّفة، وتبيان الوقائع والحقائق، التي تتعلق بالحركة الصهيونية، واليهود والهولوكوست، قبيل الحرب العالمية الثانية وأثناءها، وبعدها.
أن تغضّ دول الغرب النظر عن المتطرفين العنصريين، المؤجّجين والمحرّضين على الإسلاموفوبيا، وتبرّر أفعالهم، وتوفر الحماية لهم، فهذا يكشف زيف الغرب وأخلاقه، وسياساته الكريهة عندما يكيل بمكيالين.
حرية الرأي والتعبير وجدت طريقها الى الرسوم الكاريكاتورية الساخرة في مجلة «شارلي إيبدو»، التي جرحت في الصميم المشاعر الروحانية لمليار ونصف مليار إنسان عندما تطاولت بكلّ وقاحة وقذارة، برسومها الشنيعة على نبيّهم الأكرم.
لكن هذه الحرية انتفت وأصبحت من المحرمات عندما قام الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي، بكشف الحقائق والأدلة، وإزاحة النقاب عن المعلومات غير الصحيحة، والأرقام المزيفة والمبالغ فيها، في كتابه: «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية». أحيل غارودي الى القضاء وحُكم عليه بالسجن ودفع غرامة مالية، لأنّ ما قام به «خطير» جداً غير مقبول، و”جريمة” شنيعة لا تغتفر، فقط لأنّ غارودي كشف الحقائق، وسلط الأضواء على التضليل الذي مارسه الغرب واليهود، في تشويه الأحداث، من خلال حجج وأدلة ثبوتية، ومعلومات موثقة، نشرها في كتابه، لكونها، «تمسّ» و»تعرّي» الحركة الصهيونية والدولة «الاسرائيلية».
حرية الرأي والتعبير تسقط في الغرب، إذا ما حاول أحد ما، أن ينتقد سياسات «إسرائيل»، أو يدين اعتداءاتها، أو يندّد بممارساتها العنصرية، فيصبح على الفور منبوذاً ومعادياً للسامية، حتى وإنْ كان المنتقد والمندّد من العرق السامي!
أن تقف دول غربية الى جانب عنصريين يقومون بالإساءة الى ديانة المؤمنين، ومقدساتهم في السويد والدانمارك وكندا، والى مئات الملايين من البشر، وتحميهم وتبرّر أعمالهم، فهذا يعني أنها غير مبالية بالآخرين، وبمقدّساتهم ومعتقداتهم، لتصبح شريكة، ومحرّضة على السلوكيات المشينة بحق الشعوب، وبالتالي تكشف بشكل فاضح خلفيتها العنصرية التي لم تفارقها يوماً.
المواطن الأميركي أدولفو مارتينيز الذي انتزع يوم 11 حزيران الماضي، علم المثليين من باب كنيسة، ثم قام بحرقه أمام نادٍ للتعرّي، كان عليه أن يواجه حكماً بالسجن لمدة 15 عاماً أصدره القاضي بحقه! لكن أن يقوم عنصري بحرق الكتاب المقدس لمليار وستمئة مليون مسلم، فهذا لا يستحقّ عند الغرب المتعجرف أي أهمية!
اليوم، لا يكفي وللأسف الشديد، التنديد، ولا الغضب، ولا الإدانات، ولا استدعاء السفراء، ولا الاحتجاجات. لا بدّ من وقفة شجاعة لدول الجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي تحفظ كرامتها وكرامة شعوبها، وتصون مقدّساتهم، وذلك باتخاذ القرارات الحاسمة الرادعة ضدّ الدول التي تفسح المجال للحاقدين، وتسمح للعنصريين بتأجيج الإسلاموفوبيا من آن الى آخر، مهما كانت حججها ومبرّراتها العقبمة، وإنْ كلف الأمر قطع العلاقات معها.
كفى استخفافاً، وكراهية، واحتقاراً للشعوب، وانتهاكاً لقيَمها، ومعتقداتها، ومقدساتها.
إنها وقفة إباء وكرامة، لا بدّ من الأخذ بها اليوم قبل الغد، حتى لا تتدحرج كرة الكراهية والعنصرية أكثر فأكثر، وتفسح المجال لردود فعل عنيفة بغنى عنها الشعوب المحبة للسلام، التي تختزن في داخلها القيَم الإنسانية، والروحانية والمبادئ السمحاء التي ما فارقت وجدانها وسلوكها وأخلاقها يوماً!
د. عدنان منصور
لبنان\ وزير الخارجية والمغتربين الأسبق