أن تشهد المخيمات الفلسطينية من حين الى آخر معارك جانبية، واغتيالات وتصفيات جسديّة لقادة سياسيين وعسكريين، فهذا أمر خطير، ومشبوه، ومرفوض. ففي الوقت الذي يقاتل فيه أبناء الداخل في فلسطين أشرس عدو، ويدفعون الثمن الغالي، وهم يقدّمون الشهيد تلو الشهيد على مذبح فلسطين، نرى الفصائل المسلحة في المخيمات الفلسطينية في الخارج تتقاتل على مذبح عين الحلوة، تسيل منها الدماء، في الوقت الذي ترفع فيه شعار تحرير فلسطين!
أشهر مرّت على الكيان، وهو يشهد المظاهرات العنيفة ضدّ نتنياهو، ولم يسجل سقوط قتيل واحد، رغم تصدّي قوات الاحتلال لها، وهم الذين قدِموا الى فلسطين من مختلف أصقاع الأرض، منهم الأشكيناز ومنهم السفارديم، منهم الأبيض والأشقر والأسود، منهم من ينتمي الى العلمانية ومنهم الى الحريديم، منهم الى اليمين ومنهم الى اليسار، ومع ذلك توحّدوا حول أرض ليست لهم. ولم يتقاتلوا في ما بينهم لا في المستوطنات، ولا في الكيبوتزات، لا في المدن ولا في القرى.
فلسطين واحدة، وشعبها واحد. لكن ليس هناك ما يوحّد تنظيماتها وأحزابها وحركاتها وفصائلها العديدة، التي هي أقرب إلى العداء منه الى الاخوّة، وأقرب إلى التقاتل وتصفية الحسابات منه إلى وحدة الصف والهدف!
شذاذ الآفاق أتوا الى فلسطين من دول العالم بكلّ أحزابهم، وأطيافهم، وأصنافهم، وألوانهم، وطبقاتهم، وتوحّدوا واجتمعوا في ما بينهم على باطلهم، وأقاموا دولتهم المحتلة، بينما العديد من القادة والزعماء الفلسطينيين وتنظيماتهم، تفرّقوا على حقهم، وأضاعوا بوصلة طريقهم!
أيّ تحرير لفلسطين ستحققه الفصائل وقادتها التي تتقاتل خارج أرضها؟ خذوا العبر والدروس من الشعوب الحيّة التي قاومت محتليها. هل تقاتلت جبهة التحرير الوطني الجزائرية داخل صفوفها وهي تحارب الاستعمار الفرنسي؟! أم أنها جندت كلّ قواها من أجل هدف رئيس واحد وهو تحقيق النصر ودحر الاحتلال الفرنسي، واستقلال الجزائر؟
أوَلم يفعل هكذا أيضاً الفيتناميون من خلال نضالهم في جبهة الفيتكونغ الموحدة ضدّ الغزاة الأميركيين؟!
ألم يحرّر ثوار جنوب اليمن المحتلّ بلدهم من الاحتلال البريطاني من خلال جبهتهم الوطنية الموحدة؟!
أليست وحدة المقاومة في لبنان، وتمسّكها بقائدها، وعقيدتها، ونهجها، وأدائها، وقتالها، وسلوكها، وهدفها، ونضالها الواحد الموحّد هي التي حرّرت جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، وكانت النموذج الحي للشعوب المقاومة؟
ألا يريح الاقتتال الفلسطيني – الفلسطيني من آن إلى آخر، ويسرّ «إسرائيل» التي تراقب الوضع المقزز الذي يشهده مخيم عين الحلوة؟ أوَليس هذا الذي يتمناه وينتظره العدو الإسرائيلي من الفلسطينيين ان يتقاتلوا في ما بينهم؟!
أنّ ما تحتاجه فلسطين، اليوم ليس إلى الشعارات، والخطابات، والمزايدات، والزعامات، والتنافس على المراكز والقيادات، والإكثار من التنظيمات، والحركات الجديدة التي تنبت كالفطر من آن الى آخر. فلسطين تريد وحدة كلّ الفلسطينيين قبل كلّ شيء، وتمسك شعبها وحرصه على وحدة البندقية ووحدة مقاومته.
إذا كان العدو معروفاً مكانه، فإنّ بندقية الفلسطينيين بدورها يجب أن تكون في مكانها الصحيح، وهو فلسطين، وليس داخل المخيمات لتحمي هذا التنظيم من ذاك، وتدافع عن هذا الفصيل ضدّ آخر، او ترسم مربعاً أمنياً داخل المخيم في موازاة مربع أمني تابع لتنظيم آخر.
كفى هدراً للدماء، وكفت إساءة للقضية، واستخفافاً بحياة وأرواح المواطنين الفلسطينيين واللبنانيين على السواء، وكفى استنزاف جراح الفلسطينيين دون وجه حق.
كفى تأجيج الكراهية والعداوة، والفوضى والأحقاد داخل التنظيمات والفصائل، وأخذ المخيمات برجالها ونسائها وأطفالها الى نفق أسود طويل لا أحد يعرف مداه، لن ينجم عنه إلا المزيد من الدمار والموت والأحزان.
اشتباكات طاحنة، جسّدتها عقلية نفوس تصرّفت وللأسف الشديد بفائض كبير من الحقد والكراهية
وكسر العظم، إذ لم تقتصر تداعيات المعارك بين الفصائل الفلسطينية، وتنحصر داخل مخيم عين الحلوة، بل وصلت نيرانها إلى ثكنة للجيش اللبناني، وإلى أحياء صيدا، أدّت إلى سقوط شهداء أبرياء منه نتيجة التراشق العشوائي العنيف.
إنه لأمر محزن ومؤلم للغاية، إذ أنّ ما يجرى في مخيم عين الحلوة. وما يفعله «المقاومون» في ما بينهم يريح، «إسرائيل» طالما هناك من ينوب عنها، ويحقق أهدافها في المخيمات.
ما ذنب هؤلاء الشهداء والجرحى وأسرهم وعائلاتهم، لكي يكونوا ضحية وكبش اقتتال شائن، شرس، مقيت، مرفوض بالمطلق، أياً كانت الأسباب، والذرائع، والدوافع، والحجج الواهية التي لا مبرّر لها مطلقاً.
ما جرى من اقتتال في مخيم عين الحلوة، تسبّب بنزوح 60% من ساكنيه، وهذا العدد من النازحين لم تسجله جنين مؤخراً أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير عليها.
هذا الاقتتال المرفوض، لا يسيء فقط إلى القضية الفلسطينية، ومقاومتها، في العالم وإنما يسيء أيضاً إلى السيادة اللبنانية بالصميم، ويهدّد الأمن القومي للبنان، ويزعزع استقراراه وسلامة شعبه. إذ لا شيء يحول دون أن تتكرّر وتتمدّد هذه الاشتباكات لاحقاً، لتتجاوز مخيم عين الحلوة، وتنتشر في أكثر من مخيم ومنطقة تنتشر فيها الفصائل المسلحة الفلسطينية، والعناصر الإرهابية المدفوعة من الخارج، التي تنتهز الفرصة للانقضاض، حيث البيئة الأرضية تظلّ ملائمة لها.
إلى كلّ التنظيمات والمنظمات، والفصائل، والحركات، والجبهات، الفلسطينية وقادتها،
إلى كل الغيارى على فلسطين، وحاملي لواءها، نقول: ليس بهذا النهج والسلوك، وهذا الانقسام بين الإخوة – الأعداء، وتقاتلهم، تصان القضية، وتتحصّن المخيمات الفلسطينية، وتتحرّر فلسطين، وتستعاد القدس، وتستردّ الأرض، ويندحر العدوان.
إذا كانت فلسطين واحدة، فإنّ تنظيماتها وللأسف الشديد عديدة، حيث الخلافات بينها هي القاعدة، والتوافق المؤقت هو الاستثناء. تنظيمات تنبت مع الأيام، لتصبح في ما بعد غدة خبيثة، تتغلغل في جسم الشعب الفلسطيني، تنخر عظامه، تمنعه من أن يستعيد عافيته، وتبعده عن الهدف الرئيس، ليبقى في المستنقع الذي وضع فيه، يتطلع إلى فلسطين من بعيد، يعلق الأمل الكبير على تحريرها والعودة اليها، وهو يعدّ السنين والعقود، بينما العدو المتربّص المتوحّش، مستمرّ بتهويد فلسطين، وتهجير سكانها، وإزالة معالمها الدينية، والحضارية والتاريخية.
فلسطين التي في عينها دمعة، وفي قلبها غصة،
وفي فمها مرارة، تنادي بصوت عالٍ وتقول لكلّ التنظيمات الفلسطينية: كفى كفى انقساماً، وتنافساً، وعداوة، وتقاتلاً! إني أتطلع اليكم لتحريري من المحتلّ، فإذا أنتم غارقون في بؤرة من الخلافات، والعداوات! إني بريئة مما أنتم فيه، ومما أنتم فاعلون!
د. عدنان منصور
لبنان/ وزير الخارجية والمغتربين الأسبق