في كلّ مرة تواجه دول المشرق تطورات خطيرة تهدّد وحدتها، وسيادتها وأمنها القومي، تخرج الأصوات من هنا وهناك، لتنبّه وتحذر من مؤامرة تحيكها القوى الغربية، ومعها الكيان الإسرائيلي للنيل من المنطقة وتقسيمها، والهيمنة عليها. وكأنّ ما يجري في منطقة غربي آسيا الممتدة من إيران حتى البحر الأبيض المتوسط، ومن تركيا جنوباً الى شبه الجزيرة العربية وصولاً الى باب المندب، وما تنفذه قوى الهيمنة والعدوان من سياسات هي وليدة الساعة. يبدأ المحللون في كشف النقاب عن ما يجري من «مؤامرة»، وهم يعتقدون أنهم اكتشفوا ما لم يكن في الحسبان، وأن إنجازاً حققوه في معرفة ما يبيّته ويدبّره الغرب ومعه «إسرائيل» لدول المنطقة.
منذ مطلع القرن العشرين كشف الغرب عن أوراقه علناً، عندما عزم على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وتقسيم المشرق العربي، وبقينا في ما بعد على مدى عقود ننبّه ونحذر، ونطلق الصيحات، وندعو الى مواجهة الاستيطان، في الوقت الذي لم تجمع العرب يوماً وحدة الصف، تجاه وحدة الهدف التي جمعت المستوطنين الصهاينة، الذين عملوا على قدم وساق، لتحقيق المشروع الصهيوني أمام أنظار دول، وملوك، وحكام، وزعماء عرب.
مشروع أدّى الى تقسيم المنطقة، وفرض الأمر الواقع الإسرائيلي عليها، فيما العرب بدأوا بتوظيف أدبياتهم السياسية بجزئها الأكبر في خدمة القضية الفلسطينية، يحللون، يتنبّأون، يتوقعون، يترقبون للذي يمكن للقوى الغربية و»إسرائيل» أن تقوم به مستقبلاً حيال العالم العربي.
ما يحضّره الغرب و«إسرائيل»، لدول المنطقة، ليس بحاجة الى التكهّنات والتفسيرات والتأويلات. هو واضح جداً، وليس محجوباً عن أحد، لكن هل يأخذ الزعماء العرب على محمل الجدّ حقيقة هذا الأمر، والتداعيات الوجودية الخطيرة على شعوبها؟
خرائط تشريح دول المنطقة وتقسيمها جاهزة بانتظار التنفيذ، إذ كشفت القوى الغربية و»إسرائيل» أوراقها بوضوح إزاء العالم العربي، وبالذات، دول غربي آسيا الممتدّة من إيران وتركيا، مروراً بدول الهلال الخصيب، والجزيرة العربية، وصولاً إلى وادي النيل (مصر والسودان).
ما يجري اليوم من تطوّرات داخلية مقلقة للغاية في العراق، وسورية، وإيران، ولبنان، وفلسطين، واليمن، والسودان، وليبيا، ومصر التي ترقد على صفيح ساخن جداً، إلا ليؤكد حقيقة لا ينكرها، ولا يكذبها، ولا يخجل منها الغرب و»إسرائيل»، وهي العمل بكلّ قوة على تفكيك وتقسيم دول المنطقة، مشرقها ومغربها.
وإذا كانت قوى الهيمنة الغربية ومعها «إسرائيل» تعرف جيداً ما تريده منا، فهل أدركنا نحن العرب، قادة وحكاماً، وزعماء ما خطّطه الغرب ويعمل على تنفيذه، والذي سيطال دولهم بالصميم عاجلاً ام آجلاً؟! وهل عملوا على إفشال سياساته، وإحباط «مؤامرته» كما يحلو للعرب أن يسمّوها ويردّدوها دائماً عند كلّ مشكلة تواجههم؟
تعوّدنا دائماً، في كل مرة تقوم قوى الهيمنة و»إسرائيل» بعمل ما ضدّ دولنا، نعتبره مفأجاة لنا، وكأنّ ما يُحاك ضدنا يأتي من العالم الآخر، فنبدأ بالتحليل والتخمين، والتنجيم، والتوقعات دون أن نطرح السؤال على أنفسنا، عما إذا كنا فعلاً على مستوى المسؤولية القومية، والوطنية الحقة؟!
مفاجآت، ومفاجآت تتحكم دائماً في العقل العربي، دون أن يقرّ بفشله، وسوء بصيرته، وضعف إرادته. وهنا نسأل: هل كان الاستيطان اليهودي في فلسطين مفاجأة؟! هل كان قيام الدولة الإسرائيلية مفاجأة؟! هل كان احتلال الضفة الغربية لفلسطين مفاجأة؟! هل ضمّ القدس من قبل العدو لكيانه المؤقت مفاجأة؟! هل كان ضمّ الجولان السوريّ لدولة الاحتلال مفاجأة؟! هل ممارسات العدو في المسجد الأقصى، وكنيسة القيامة، وما يحضره للمسجد مستقبلاً مفاجأة؟! هل ما يحصل اليوم في اليمن والعراق وسورية، وإيران، ولبنان، والضفة الغربية وقطاع غزة مفاجأة؟! هل تقسيم السودان الى دولتين، وما ينتظره على الطريق من تقسيمات أخرى كان مفاجأة؟! هل ما يحيكه الغرب و»إسرائيل» اليوم ضدّ مصر مفاجأة؟! ما الذي فعلناه طيلة هذه العقود لوقف الانهيار في دولنا، والتصدي لقوى الهيمنة والعدوان؟! هل بنينا الدول القادرة المقتدرة التي تحفظ أرضها وسيادتها، وتصون وحدة شعوبها ونسيجها الوطني؟! هل احترمت دولنا وأنظمتها، دساتيرها وقوانينها، وطبقت العدالة الاجتماعية، وحققت الرفاهية لشعوبها؟! وهل حصّنت هذه الدول نفسها، تجاه أطماع الخارج من خلال أنظمة ديمقراطية حقيقية بعيدة عن الفساد، ومراكز النفوذ، وسيطرة شبكات الاحتكارات، ونهب الثروات الوطنية، وتقاسم الحصص، وإطلاق يد الفاسدين دون مساءلة أو محاكمة؟!
ما الذي فعلناه منذ أكثر من قرن، وبالذات منذ أربعة عقود، عندما أفصح الغرب عن نياته لتقسيم دول المنطقة، ونشر خرائطها الجغرافية الجديدة؟! وهل كان مفاجأة ما نشره برنارد لويس، ومجلة «كيفونيم» الإسرائيلية (عدد 14، شباط 1982) التي تضمّنت دراسة حول «استراتيجية إسرائيل خلال الثمانينيات»، لـ أوديد يونون ، ODID YONON مستشار رئيس الوزراء إسحق رابين؟! وهي دراسة تجسّد مشروع النظام الصهيوني – نظام شارون وايتان – المتعلق بالشرق الأوسط!
منذ ما قبل الثمانينيات، و»إسرائيل» ترصد المنطقة بكلّ دقة باستراتيجيتها التي عبّرت عنها الدراسة بكل صراحة ووضوح، من «انّ الهدف السياسي لـ «إسرائيل»، تفكيك مصر وتقسيمها الى وحدات جغرافية منفصلة، فإذا تفككت مصر، لن تتمكن دول مثل ليبيا والسودان، وحتى دول أخرى أكثر بعداً من الاستمرار في أشكالها الحالية، وسترافق مصر في انهيارها وانحلالها. وسوف يكون لدينا دولة مسيحية في مصر العليا، وعدد من الدول الضعيفة الأخرى.
إنّ تقسيم لبنان الى خمسة كانتونات، ينبئ بالكثير الذي ينتظر العالم العربي أجمع، بما فيه مصر، وسورية، والعراق، وكلّ الجزيرة العربية، فقد بات الأمر منجزاً في لبنان. يعتبر الهدف الأكثر الحاحاً لـ «إسرائيل» على المدى البعيد، تحقيق اضمحلال سورية والعراق، وتحوّلهما الى كانتونات عرقية ودينية… ويعتبر الهدف على المدى القصير تحقيق الانحلال العسكري لهاتين الدولتين».
«سوف تنقسم سورية الى عدة دول، بحسب الجماعات العرقية، بحيث إنّ الساحل سيصبح دولة علوية، ومنطقة حلب دولة سنية، ودمشق دولة أخرى سنية معادية لجارتها الشمالية، وسوف يشكل الدروز دولتهم الخاصة التي يمكن أن تمتدّ الى جولاننا(!!)، وبكلّ الأحوال في حوران وشمال الأردن…».
«إنّ تفكيك العراق يهمنا أكثر من تفكيك سورية، لأنّ النظام العراقي هو الذي يهدّد أمن إسرائيل بالدرجة الاولى»… «كلّ خلاف داخل العالم العربي يصبّ في صالحنا على المدى القصير، وسيساهم في تقريب الموعد الذي سينقسم فيه العراق بحسب طوائفه الدينية كما في سورية ولبنان».
وستتشكل ثلاث دول أو أكثر حول المدن الثلاث: البصرة، والموصل، وبغداد، وتعتبر الجزيرة العربية بأكملها مهدّدة بالتفكك تحت الضغوط الخارجية والداخلية…».
«يُعتبر الأردن على المدى القصير هدفاً استراتيجياً…، لا يمكن للأردن أن يعمّر طويلاً في ظلّ بنيته الحالية، ويجب أن تتركز الخطة الإسرائيلية، سواء العسكرية او الدبلوماسية، على تصفية النظام الأردني، ونقل السلطة الى الأكثرية الفلسطينية. سوف يحلّ هذا التغيير في النظام الأردني مشكلة أراضي الضفة الغربية ذات نسبة السكان العرب المرتفعة، وذلك عن طريق الحرب أو عن طريق شروط السلام. ويجب أن يحصل ترحيل للسكان من هذه الأراضي…. لم يعد بالإمكان ترك الوضع الحالي يستمرّ دون فصل الدولتين: العرب في الأردن، واليهود في الضفة الغربية. لن تكون هناك حياة مشتركة سلمية في هذا البلد إلا عندما سيفهم العرب، بأنهم لن يعرفوا لا وجوداً، ولا أمناً، إلا بعد تحقيق السيطرة اليهودية من نهر الأردن حتى البحر، ولن يحصلوا على وطنهم الخاص، وعلى أمنهم إلا في الأردن…».
هذا ما أعدّته الاستراتيجية الغربية والإسرائيلية للعرب قبل أربعين عاماً. فما الذي فعله الحكام العرب ونحن نرى اليوم غيوماً قاتمة ومشهداً مظلماً يلفّ دولنا بعد أحداث مدمّرة، بدأت منذ أكثر من عشر سنوات، لا تزال تزلزل بلدان منطقتنا أمام أنظار «قادة» الأمة، لتجعل دولها أقرب الى التقسيم منه، الى الوحدة، لا سيما بعد أن علت أصوات عميلة، مشبوهة، متواطئة، مرتبطة بقوى الهيمنة و”إسرائيل”، تدعو وتروّج للانفصال والتقسيم علانية، أكان ذلك في سورية، أو العراق، أو لبنان، أو إيران أو غيرها…
إنها مسؤولية الشعوب قبل حكامها، كي تنتفض، وتقف بكلّ حزم لإسقاط ما يُدبّر لدول المنطقة وشعوبها، حتى لا تتحوّل هذه الأوطان إلى كانتونات وقبائل تسودها الكراهية، والعنف والاقتتال المتواصل في ما بينها لعقود وعقود.
لن توفر قوى التسلط، ولا العدو الإسرائيلي دولة من دول المنطقة أياً كانت ارتباطاتها وعلاقاتها المتميّزة مع قوى الغرب و»إسرائيل». هؤلاء يبحثون عن مصالحهم فقط، وعندما تقضي مصالحهم تنفيذ خططهم، لن يكون حلفاؤهم الا الكبش على مذبح سياساتهم، واستراتيجيتهم، التي لا تعرف صديقاً ولا حليفاً، ولا عميلاً، ولا مأجوراً، ولا مرتزقا.
هل تدرك الجماعات الانفصالية التي تحركها الأيادي الخارجية القذرة، أن لا حياة ولا استقرار، ولا مستقبل لها! فهي لن تكون إلا لقمة سائغة في فم من أوجدها وحرّضها ودعمها، وفي ايّ وقت.
هل يستيقظ قادة دول المنطقة ومعهم شعوبها وتتوحد، وتستعيد ذاتها قبل أن يجرفها طوفان الاقتتال، والانتحار الذاتي، والتقسيم الذي أصبح واقعاً على الأرض ينتظر الإخراج…؟!
د. عدنان منصور
لبنان/ وزير الخارجية والمغتربين الأسبق