أن تكوني يا غزة، آية النضال، وقبلة المقاومين في العالم من أجل الحرية وكرامة الإنسان، فهذا أمر لافت ومثير. فأيّ معدن هو معدنك، وأيّ شعب هو شعبك الذي أتعب طغاة العالم، ولم يتعب! مجرمو الحروب تكالبوا عليك، وعلى مقاومتك الأسطورة لسحقك وخنقك، ودول كبرى طاغية، مستبدة، عنصرية، متسلطة، حشدت كلّ قواها، وآزرت دولة الإرهاب الإسرائيلية، بالمال والسلاح، والمواقف السياسية، والدبلوماسية، واللوجستية.
فبعد أيام قليلة من بداية عدوان «إسرائيل» عليك، توجه اليها على عجل زعماء دول ما كانت يوماً إلا معادية لحقوق الشعوب الحرة المقهورة، المتسلطة عليها، والمستغلة ثرواتها وخيراتها.
رؤساء زحفوا الى مجرم الحرب نتنياهو ليعربوا له عن تأييدهم المطلق، ودعمهم الكبير له، ولجيشه الذي يقوم بتدمير شامل لغزة، وإبادة جماعية وتطهير عرقي لشعبها.
هكذا أتى بايدن أميركا، وسوناك بريطانيا، وماكرون فرنسا، وشولتز المانيا، وكلّ هؤلاء، يريدون مرغمين رضى «إسرائيل»، وبالذات، رضى اللوبيات اليهودية في العالم، لا سيما في الولايات المتحدة وأوروبا. لم يكتف رئيس الدولة العظمى، بأن يعلن عن دعمه لكيان الاحتلال بحجة «الدفاع عن نفسه» بل عزّز دعمه بإعلانه جهاراً عن صهيونيته بطريقة متزلفة بغية استرضاء الكيان ولوبياته اليهودية في الداخل الأميركي، وهو الذي يستعدّ لجولة رئاسية ثانية.
هذا التصرف لرئيس أكبر دولة في العالم ينمّ عن مدى تأثير اللوبي اليهودي داخل الولايات المتحدة، وبالذات على صنّاع القرار في البيت الأبيض.
ألم تكن هيلين توماس عميدة الصحافة في البيت الأبيض على مدى خمسين سنة، وعاصرت عشرة رؤساء أميركيين منذ جون كندي وحتى باراك أوباما، على حق، عندما أجابت عام 2010 على سؤال طرحه عليها الحاخام دايفيد نسنوف، اذا ما كان لديها أيّ تعليق عن «إسرائيل»:
«أخبرهم بأن يذهبوا الى الجحيم خارج فلسطين… ذكر هؤلاء بالشعب الذي تمّ احتلاله، وهذه هي أرضه… وأنه يجب أن يعودوا الى أوطانهم، بولندا، وألمانيا»… وقالت: «إنهم موجودون هنا في كلّ مكان. فما حاجتهم الى التجسّس… إنّ الصهاينة يتحكمون بالسياسة الخارجية الأميركية ووول ستريت».
هاجم اللوبي اليهودي، والصحافة الأميركية، توماس، كما وبّخها البيت الأبيض، حيث وصف المتحدث الرسمي فيه، تصريحاتها على أنها مشينة وتثير الكراهية. كما تخلّت عنها وكالة هيرست التي كانت تعمل لها.
لا غرابة بعد ذلك، أن يقف بايدن في حضرة نتنياهو، ليعرب له عن دعمه المطلق له، ولعدوان «إسرائيل» والوقوف الى جانبها، مجاهراً بصهيونيته، وعنصريته، وانحيازه السافر لها، غير مكترث بالدمار، وحقوق الإنسان الفلسطيني، ضارباً عرض الحائط المجتمع الدولي، والأمم المتحدة وميثاقها، والقوانين الدوليّة، في الوقت الذي يشاهد الجيش الإسرائيلي ينفذ سياسة الأرض المحروقة، والإبادة الجماعيّة، ويجرف في طريقه البشر والحجر.
ظنّ مجرمو العصر، وطغاة العالم، أنّ القتل الجماعي، والتطهير العرقي، وإبادة المدنيين العزل، وهدم البيوت على ساكنيها، سيجعل شعب غزة ومقاومتها يركعان، ويرفعان الأعلام البيضاء. لكن رغم ما شهده شعب غزة، والمقاومون الأسطورة على مدى سبعين يوماً وحتى الآن، وهم يعيشون على رقعة صغيرة من الأرض، مكتظة بمليونين وثلاثمئة ألف نسمة، مع حصار ظالم قاتل من كلّ الجهات، براً وبحراً وجواً، وافتقارهم لأبسط مقومات الحياة من ماء، ودواء، وغذاء، وكهرباء، وقصف همجي وحشي متواصل من كلّ الجهات، وتهجير 60% من سكانه، لم يركع شعب غزة، ولم يستسلم المقاومون، ولم يرفعوا الراية البيضاء. إنما رفعوا راية النصر الأكيد، بعد أن أثبتوا للعالم كله، أنهم يجسّدون شعباً لا يعرف الخضوع أو الذلّ، أو المهانة. وانّ الشهادة هي السلاح الذي سيحرّر الأرض من المعتدين المحتلين.
مقاومة تتصدّى لجيش من بين أقوى جيوش المنطقة والعالم، بإرادة فولاذية، وبشجاعة لا مثيل لها، تنزع عنه هالته المزيفة، تهزمه في ساحة القتال، تعرّيه، تفضحه، وتقزّم معه قادة «الكيان الإسرائيلي» بسياسيّيه وعسكريّيه، أـمام العالم كله، بعد أن جعل المقاومون من أرض غزة مقبرة للغزاة.
شعب غزة بصموده ومقاومته، أجبر واشنطن وأذنابها في أوروبا والعالم، على إعادة النظر في سياساتهم المنحازة دون وجه حق لـ «إسرائيل»، لا سيما بعدما كشفت واشنطن النقاب عن وجهها الحقيقي وهي تستخدم «حق» النقض في مجلس الأمن، ضدّ مشروع قرار لمجلس الأمن، يهدف الى وقف إطلاق النار، حيث بانت سياساتها السافرة المنحازة كلياً للكيان المحتلّ، والداعمة للعدوان، وللمجازر التي يرتكبها جيش الاحتلال، والتي تتعارض كلياً مع تطلعات ومواقف دول العالم الحرّة، وقرار الجمعيّة العامة للأمم المتحدة القاضي بوقف إطلاق النار.
صمود غزة ومقاومتها، ووقوف شعوب العالم الى جانبها، وتنديدها بجرائم «إسرائيل»، ودعم قوى الهيمنة والاستبداد لها، هو الذي غيّر المعادلات والمواقف، وليست إنسانية بايدن، او ماكرون، او سوناك او شولتز. هي عشرات الآلاف من الشهداء، والمعوقين، وجرحى العدوان الهمجي الإسرائيلي، التي وضعت الغرب أمام الأمر الواقع، وليست حقوق الشعب الفلسطيني، ودماء الشهداء الذين حرّكوا «ضمير» بايدن وموقفه الجديد. رغم ذلك لا يمكن الوثوق بالسياسة الغربية، وبالذات الأميركية، حيال القضية الفلسطينية. فلا يتصوّر أحد، انّ الولايات المتحدة، وبالذات بايدن، ستتخلى عن انحيازها ودعمها المطلق لـ «إسرائيل»، إذ انّ مواقف بايدن الأخيرة لا تزال في إطار الملاحظات والتمنيات لذر الرماد في العيون، دون ان تترجم فعلياً وعملياً على الارض حتى الآن.
لن يستطيع بايدن تجاوز ضغوط اللوبيات اليهودية وتأثيرها في الداخل الأميركي والخارج، التي تتحكم بقرارات الحكام والمؤسسات ذات الصلة بالقضية الفلسطينية. ولن يستطيع بايدن الخروج عن بيت اللوبي اليهودي، وعن أسلافه الذين استخدموا منذ عام 1972 وحتى اليوم أكثر من 45 مرة حق النقض ضدّ مشاريع قرارات لمجلس الأمن تتعلق بحقوق الفلسطينيين، وممارسات «إسرائيل» التعسفية في الأراضي المحتلة التي انتهكت وتنتهك القانون الدولي، وقرارات الأمم المتحدة. لا يتصوّر عاقل أنّ بايدن وهو على أبواب انتخابات رئاسية سيفك الارتباط مع «إسرائيل»، حيث الولايات المتحدة تحيك معها سياسات مستقبلية لإنهاء القضية الفلسطينية، ورسم خريطة للشرق الأوسط الجديد الذي تكلم عنه مجرم الحرب في اليوم الثاني لعدوانه على غزة.
لا ننتظر من نتنياهو وغيره من صهاينة الكيان المحتلّ، القبول بدولة فلسطينية، ولا ننتظر من الولايات المتحدة صدقية، وجدية للعمل على تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة.
واشنطن وتل أبيب، تريدان شرق أوسط جديد على أنقاض غزة، وفي ما بعد على الضفة الغربية، ومن ثم تهجير كلّ الفلسطينيين الى خارج وطنهم، وجعل فلسطين التاريخية
دولة لليهود فقط، تطوي نهائياً القضية الفلسطينية على مرأى من الحكام العرب والأمم المتحدة!
وحدها مقاومة الفلسطينيين تحبط ما يعمل عليه مجرم الحرب نتنياهو، ومن معه في الولايات المتحدة، وأوروبا، وإنْ كلف ذلك المزيد من التضحيات. إذ لم يعد أمام الفلسطينيين من شيء ليخسروه، إلا مقاومتهم التي تستطيع أن تطيح بخطط نتنياهو والغرب، وتفرض إرادتها في ساحة القتال، لتنتزع بالقوة حقها وإنْ كان الثمن غالياً جداً. وهل هناك من خيار أمام الفلسطينيين غير المقاومة؟!
د. عدنان منصور
لبنان/ وزير الخارجية والمغتربين الأسبق