لم تعد “إسرائيل” قادرة على الخروج بحلّ ملائم لها، بعد ثمانية أشهر من الحرب، دون أن يحقق نتنياهو إنجازاً استراتيجياً عسكرياً على الأرض، يستطيع من خلاله أن يقنع معارضيه، والإسرائيليين على السواء بضرورة الذهاب حتى النهاية في حربه العبثية التي يخوضها، والتي لأول مرة في تاريخ الصراع العربي “الإسرائيلي”، تقف المقاومة الفلسطينية واللبنانية بكلّ بسالة وجدارة، تقاتل الجيش “الإسرائيلي”، وتشلّ قدراته، وتمنعه من تحقيق الحسم العسكري السريع، وفرض الأمر الواقع في الميدان.
ليست الحرب التي تخوضها المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، والمقاومة في جنوب لبنان، كما المقاومات الأخرى المساندة، مغامرة وتهوّراً كما يزعم العديد من المتخاذلين في العالم العربي، وبالذات في المنطقة المشرقية، من زعماء، وسياسيين، وإعلاميين، وأكاديميين وناشطين، وانتهازيين. هؤلاء أغمضوا عيونهم عن عمد، أو يأس، او رغبة في تحقيق منافع ومصالح شخصية بحتة، ولم يفقهوا حقيقة الصراع العربي – “الإسرائيلي” من منظوره القومي، والوجودي، والحياتي، والمصيري.
في الوقت الذي تعمد فيه “إسرائيل” بكلّ شراسة على محو هوية الشعب الفلسطيني ووجوده، وطمس حقوقه، وفي الوقت الذي يكشف الإسرائيليون بسياسييهم، وقادتهم، وزعماء أحزابهم بكلّ وقاحة عن نياتهم العدوانية، وعن شهيّتهم، وتطلعاتهم التوسعية، والتأكيد على “حقهم التاريخي” في لبنان، والأردن، وسورية، والعراق، والسعودية، ويعملون على تحقيق ذلك، نرى الحاقدين، ودعاة “السلام” مع العدو يتكلمون عن مغامرة المقاومة، واستئثارها بقرار الحرب. هنا نسأل هؤلاء بصوت عالٍ، ما الذي أعدّوه لمواجهة الخطر الإسرائيلي، وما الذي فعلوه وقدّموه للحفاظ على أرضهم وسيادة وطنهم؟! هل هؤلاء “الغيارى” على لبنان، وفلسطين، على استعداد للتصدي لـ “إسرائيل” ومواجهة أطماعها عند أيّ عدوان تشنه؟! إذا كان بعض الحمقى، والعملاء، المهووسين بالسلام بأيّ شكل كان مع “إسرائيل”، ويروّجون له،
ويصرّحون به علانية، فليقولوا لنا، أيّ «سلام» هو هذا السلام الذي يريدونه؟! ليقولوا لنا بصراحة، هل يريدون سلام “إسرائيل” القائم على الاستسلام وفرض الأمر الواقع، أم السلام القائم على الحق والعدل، وهو السلام الذي ترفضه “إسرائيل” بالمطلق وبكلّ عنجهية؟!
ليقل لنا هؤلاء من دعاة السلام، هل يعتقدون أنّ “إسرائيل” وقادتها سيتوقفون عن سياساتهم وتطلعاتهم التوراتية التوسعية حيال دول المنطقة؟! هل السلام مع “إسرائيل” سيسمح بقيام دولة فلسطينية، وسيدفع بالعدو إلى تفكيك مستوطناته، وإخلاء أكثر من نصف مليون مستوطن منها؟!
ألا يدرك هؤلاء بعد، أنّ أهميتهم عند “إسرائيل” بكلّ قادتها وأحزابها تبقى قائمة، طالما هم عملاؤها، ومرتزقتها، وفي خدمة مصالحها، ولطالما هي بحاجة اليهم! وعندما ينتهي دورهم ستلفظهم مثل ما لفظت عملاءها في جنوب لبنان بعد تحريره من الاحتلال، ليقول كبير العملاء في ما بعد: “خدمناهم عشرين سنة، وتخلّوا عنا كالكلاب!”.
ما يجري في غزة وجنوب لبنان حرب مفصلية، لا يقبل بها تجار الأوطان، ولا المنظرون، والمتخاذلون، والمرتمون في أحضان واشنطن وتل أبيب، واللاهثون وراء أي سلام مبتور، وإن كان على حساب حقوق وطنهم وسيادته وأرضه ومستقبل أبنائه..
ليقل لنا هؤلاء، لماذا الزحف والهرولة باتجاه العدو، للحصول على السلام المذلّ الذي يريدونه؟ ولماذا يصرّون على السباحة عكس التيار؟! هل هذه السباحة ستوفر لهم الأمان والبقاء على شاطئ الوطن، أم ستقذفهم إلى ما وراء المحيط؟!
نعلم أنّ الحرب في الجنوب مكلفة، وهي مسؤوليّة الجميع. إنها حرب وقائيّة، وإنّها حرب كلّ اللبنانيين، وليست فقط حرب المقاومة. فالخطر والتهديد الإسرائيلي لا يعني الجنوب فقط، وإنما يعني لبنان كله، وهذا ما يجب أن يفهمه اللبنانيون، وإنْ كان هناك من يعترض ويرفض ذلك بسبب ارتهانه المسبق لدول خارجيّة وسفاراتها، والمعادية بالشكل والأساس لشعوب المنطقة، ومقاومتها.
توحُّد اللبنانيين، ووقوفهم إلى جانب مقاوتهم، وتصدّيهم للاحتلال والعدوان والأطماع الإسرائيلية، ضرورة تعبّر عن موقف حازم، كي يفهم العدو أنّ هناك شعباً مصمّماً على تحرير أرضه، وتحصين شعبه، والتصدي لـ “إسرائيل” واعتداءاتها وأطماعها، وإنْ وجدت إلى جانبها خونة، وعملاء، ومرتزقة، ومطبلين ومنتفعين، وباحثين عن مكاسب ومنافع شخصية.
هل سمع هؤلاء مؤخراً دعوة وزير التربية في الكيان إلى طرد المقاومة وسكان الجنوب لما بعد الليطاني؟! هل سمع هؤلاء “الغيارى” على السلام الوهم، ما قاله رئيس الكونغرس الأميركي مايك جونسون في ذكرى قيام الكيان المؤقت:
“إننا نحتفل بتحقيق الوعود التي قطعت لإبراهيم واسحق ويعقوب قبل آلاف السنين… الحلم الصهيوني أصبح حقيقة!”. هل تخلت “إسرائيل” يوماً ومعها راعيتها الكبرى، عن “الوعد الإلهي” المزعوم لبسط “إسرائيل الكبرى” على المنطقة من الفرات إلى النيل؟! ليقل لنا دعاة «السلام الوهم» مع «إسرائيل»، متى التزمت تل أبيب بالقرارات الدولية على مدى تاريخ الصراع العربي “الإسرائيلي”؟! هل التزم العدو بالقرار الدولي 1701 وغيره، حتى ينتقد “الغيارى” على السلام، المقاومة باستئثارها بقرار الحرب والسلم؟! هناك عدو، وهناك، احتلال، وهناك تهديد، وهناك أطماع، ليقل لنا هؤلاء ما الذي فعلوه وقدّموه عندما كان جنوب لبنان تحت الاحتلال لمدة 22 عاماً؟!
وليقل لنا الغيارى على لبنان كيف يواجهون التهديدات المتواصلة، والاحتلال لأراضٍ لبنانية؟! أبالسياسة ام بالدبلوماسية؟! وهل تمّ تحرير الجزء الأكبر من الأراضي اللبنانية من الاحتلال الإسرائيلي بالسياسة والدبلوماسية ام بالمقاومة، ام بمزايدات العملاء والمتخاذلين؟! وهل تمّ دحر فصائل الإرهاب في شمال شرق لبنان بتصريحاتهم الفارغة، أم بتصدّي الجيش والمقاومة لها؟!
أمام مقاومة لبنان للعدوان، لم يعد من خيار لمجرم الحرب نتنياهو، سوى تصعيد العمليات العسكرية إلى ذروتها، وتوسيع نطاقها، مستعيناً بدعم الولايات المتحدة اللامحدود، السياسي والعسكري والمالي والإعلامي واللوجستي.
رغم كلّ الأهوال في غزة، وتصعيد العمليات في جنوب لبنان، ومقترحات بايدن للبحث عن حلّ للحرب، فإنّ نتنياهو لن يقبل بأيّ حلّ لا يحقق له مبتغاه، وهو الذي سبق له أن وجّه كلامه للمسؤولين الأميركيين وعلى رأسهم بايدن، بأن ليس هناك من قوة تستطيع أن تفرض قرارها علينا أكان ذلك من الداخل أو الخارج. هذا التصريح بحدّ ذاته يمثل تحدياً للمجتمع الدولي، وللرئيس الأميركي ومن سار على نهجه.
مصالح الولايات المتحدة و”إسرائيل” واحدة، يجمعهما هدف واحد في المنطقة، لا بمكن التغاضي عنه، وهو التخلص من المقاومات والأنظمة الوطنية المعادية لـ “إسرائيل”، ولمصالح واشنطن الاستراتيجية في المنطقة، وإنهاء القضية الفلسطينية، وإدخال دولها قسراً في بيت الطاعة الأميركي.
لا تعوّلوا على الولايات المتحدة، ولا على تصريحات مسؤوليها التي تحمل في ظاهرها السلام، وفي باطنها الخداع والنفاق. ولو كان غير ذلك، لما بقيت واشنطن تدعم “إسرائيل” متجاوزة القرارات الأممية، ومحكمة العدل الدوليّة، وتعارض إجراءات محكمة الجنايات الدولية، وتدعم جيش الإرهاب دون حدود، كي يفعل ما يشاء من مجازر وإبادة جماعية، وهي التي حتى اللحظة ترفض الإقرار بحدوثها.
الحرب الواسعة تطلّ علينا، تتصاعد، وستستعر أكثر، فيها يرى مجرم الحرب فرصته الأخيرة التي لن تتكرّر للقضاء على المقاومة، وهي الفرصة ذاتها التي ستطوي صفحته نهائياً، وتغرقه وتقضي عليه، وإنْ دعمه ووقف إلى جانبه من وقف!
د. عدنان منصور
لبنان/ وزير الخارجية والمغتربين الأسبق