مَن يتتبّع سياسة الولايات المتحدة في المنطقة، وتحركات مبعوثيها المكوكية، يبدو له للوهلة الأولى، كم هي قلقة وحريصة على عدم تصعيد الحرب في المنطقة، وهي تطلّ عليها من آن الى آخر، عبر مبعوثيها وتحركاتهم، لا سيما وزير خارجيتها أنطوني بلينكن، والمبعوث الخاص للرئيس جو بايدن آموس هوكشتاين. ويظهر له كم هي الولايات المتحدة “قلقة”، و”حريصة” على السلام وعدم التصعيد العسكري على الجبهة اللبنانية الفلسطينية المحتلة، وهم يلتقون بمسؤولين لبنانيين، يستمعون منهم، ويستمعون إليهم، فيما حرب الإبادة الجماعية والتدمير الممنهج في غزة مستمرّة بكلّ وحشيتها، ووتيرة العمليات العسكرية على الحدود الجنوبية يصعّدها مجرم الحرب في تل أبيب.
ما الذي ينتظره العالم، وينتظره بالتحديد العرب من الولايات المتحدة التي تناور، وتراوغ، وتراهن، وتقامر، وتقف عائقاً في وجه أيّ حلّ لا يرضيها، ولا ترضى عنه “إسرائيل”.
أيّ وسيط هو هذا الوسيط الأميركي؟! وما الذي ننتظره من الرئيس جو بايدن “الصهيوني”، كما وصف نفسه، ومن بلينكن اليهودي الصهيوني، وهوكشتاين اليهودي الصهيوني؟! هل ينطبق على الولايات المتحدة بـ”باقتها” الصهيونية الثلاثية، صفة الوسيط الباحث عن السلام، وإيجاد الحلّ العادل لأكبر قضية إنسانية مضى عليها أكثر من 76 عاماً، ترتبط بشعب فلسطيني مقهور يعاني من احتلال، وظلم تاريخي، وسياسات عنصرية شرسة، وحروب ومجازر مستمرة بحقه، ينفذها جيش الإرهاب الإسرائيلي.
كم تدغدغ عبارة الوسيط نفوس الذين يعوّلون على “صدقية” واشنطن ويعلّقون الآمال الكبار عليها، دون أن يتوقفوا أمام حقيقة الوسيط، وخلفيته، ونياته المسبقة.
ألا يرى هؤلاء ما يجب ان يتوفر للوسيط من صفات كي يقوم بمهمته على أكمل وجه؟!
أليس من الضروري أن يكون الوسيط حيادياً، ونزيهاً، وشريفاً، وعادلاً، وعلى مسافة واحدة من المتحاربين، والمتنازعين، وأن يكون إنسانياً، وصاحب ضمير حي؟!
هل تعتقد دول العالم ومعها الشعوب العربية دون بعض الأنظمة، انّ الولايات المتحدة تتمتع بصفات الوسيط هذه، ويعوّلون عليها للوقوف الى جانب الحق والعدل؟!
أليست واشنطن التي هرول رئيسها بكلّ خفة ليزحف إلى دولة الاحتلال، ويعرب لنتياهو عن دعم ووقوف الولايات المتحدة المطلق الى جانب “إسرائيل”؟! أليست الولايات المتحدة من عارَض مشروع قرار مجلس الأمن الهادف الى وقف إطلاق نار دائم في غزة تقدّمت به روسيا؟! أليست الولايات المتحدة من صوّت ضدّ القرار الأممي للجمعية العامة الذي اعترف بدولة فلسطين؟! أليست الولايات المتحدة من طرح حق النقض (الفيتو) داخل مجلس الأمن على مشروع قرار يعترف فيه بدولة فلسطين؟! أليست الولايات المتحدة من عارَض قرار محكمة الجنايات الدولية بملاحقة مجرمي الحرب الاسرائيليين؟! أليست الولايات المتحدة هي التي شكّكت بقرار محكمة العدل الدولية؟! أليست الولايات المتحدة هي الدولة التي استخدمت الفيتو 47 مرة منذ عام 1973 وحتى اليوم، ضد مشاريع قرارات في مجلس الأمن تدين فيها الاحتلال الإسرائيلي، وتندّد بما تقوم به “إسرائيل” من ممارسات عنصرية ظالمة ضدّ الفلسطينيين، وإجراءات تعسّفية بحقهم، واستمرارها في احتلال أراض عربية، واستخدامها للقوة ضدّ المدنيين، وانتهاكها لأبسط مبادئ القانون الدولي؟!
أليست الولايات المتحدة حتى اللحظة هي التي تمتنع عن الاعتراف والإقرار بالمجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بحق شعب غزة، والتي قال عنها بايدن إنه ليس هناك حتى الآن من دلائل تشير الى انّ “إسرائيل” ارتكبت مجازر جماعية؟!
أليست الولايات المتحدة هي التي تمدّ «إسرائيل» منذ اليوم الأول لحربها على غزة بكافة وسائل الدعم الهائل لها، وتتدخل بشكل سافر في الحرب عسكرياً وتكنولوجياً، ولوجستياً، وإعلامياً، وسياسياً، ودبلوماسياً؟! كيف يمكن بعد ذلك، وبأيّ منطق الوثوق بالوسيط الأميركي وصدقيته؟! ما الذي سيقدّمة ويحضّره “الرباعي الصهيوني” بايدن وبلينكن وهوكشتاين ونتنياهو لغزة وشعوب المنطقة؟!
هل نعوّل بسذاجة على أموس هوكشتاين الموظف في الإدارة الأميركية ليقوم بدور الوسيط، والإطلاع على وجهات نظر المسؤولين في المنطقة، وإفراغ ما في جعبته من اقتراحات تعجيزية، لإيجاد الحلّ الملائم للعدو الإسرائيلي في حرب الإبادة الدائرة التي يشنها؟!
القرار ليس في يد المبعوثين، وإنما في يد الرئيس الأميركي بايدن، الذي للأسف لا يستطيع أن يتخذه دون رضى وموافقة “إسرائيل” المسبقة. وما قرار الولايات المتحدة الأخير الذي تبنّاه مجلس الأمن، والذي تضمّن وقف إطلاق نار دائم، إلا الدليل الحيّ على مراوغة وتلكّؤ نتنياهو القبول والسير به، والذي عرّى وأحرج جدية بايدن، و”حيادية” الولايات المتحدة التي تطلّ على المنطقة كوسيط بجلد حمل، يبحث عن سلام الأمر الواقع “الاسرائيلي” وسلامة المصالح الأميركية التي يريد تثبيتها في المنطقة.
ما كانت واشنطن يوماً الى جانب حقوق الشعوب المضطهدة في العالم، لا سيما الشعب الفلسطيني.
بل كانت على الدوام، عرّابة وحامية، وراعية لـ «إسرائيل» في حروبها وجرائمها منذ نشوئها، والداعمة لها في كلّ صغيرة وكبيرة.
لا يتصوّر عاقل، أنّ زيارات المبعوثين المكوكية الى المنطقة، تهدف الى تحقيق السلام والاستقرار الدائم، وضمانة حقوق الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة،
بل على العكس، زيارات تبحث عن حلول ترضي دولة الاحتلال، وترمي إلى تصفية المقاومات للاحتلال الإسرائيلي في المنطقة، ومن ثم فرض الأمر الواقع الأميركي ـ «الإسرائيلي» على الضفة والقطاع وجنوب لبنان.
الولايات المتحدة اليوم أمام تحدّ كبير بعد الذي يجري في أوكرانيا، وهي تخوض حرباً من وراء المحيط ضدّ روسيا، وقودها دول أوروبا المطواعة لواشنطن والمغلوبة على أمرها. كما أنها منهمكة في قيادة حلف في جنوب شرق آسيا ضدّ الصين، قوامه اليابان واستراليا، وتايوان، وكوريا الجنوبية.
في منطقة الشرق الأوسط، تجد واشنطن في حلفها الإبراهيمي، ضرورة ملحة، وفرصة ذهبية لن تتكرّر لإنهاء المقاومات فيه، بغية تغيير وجه المنطقة والشرق الأوسط برمّته، وإنْ كلف الأمر المزيد من الحروب والتصعيد، والإبادة الجماعية، والقتل والدمار.
واشنطن تعتبر مصالحها ومصالح «إسرائيل» وأتباعها في المنطقة، فوق كلّ اعتبار، لا يعرف المساومة، أو التراجع.
وحدها مقاومات الشعوب الحية لقوى الاحتلال، ودول الهيمنة تبقى السبيل الوحيد للظفر بالحرية، وتحرير الأرض والإنسان.
ووحدهم الحمقى والعملاء الذين يعوّلون على الدور «النزيه» و«الشريف» للولايات المتحدة إزاء الشعوب المقهورة. هؤلاء لا يريدون أن يقرأوا تاريخ اليانكي الأميركي، وما فعله بحق شعوب العالم المضطهدة. وما أبناء فلسطين والمنطقة، إلا النموذج القبيح لسياسات الحروب والدمار والفوضى التي أشعلها في المنطقة على مدى عقود، ما جعل المنطقة أسيرة وفريسة له، يستغلّ خيراتها وينهب ثرواتها.
إنه اليانكي الأميركي، لا تنتظروا منه خيراً ولا حلاً عادلاً، وهو الذي ما كان يوماً وسيظلّ مستقبلاّ، إلا الى جانب المعتدين، والطغاة والمستبدّين، وقتلة الشعوب، وإنْ تشدّق ونادى على الدوام بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
ما كانت الولايات المتحدة يوماً لتحترم هذه المبادئ، لنقول اليوم إننا نعلق الآمال على الوسيط «النزيه». بايدن ونتنياهو وجهان لعملة صهيونية واحدة.
فإذا ما رأيتم أنياب واشنطن بارزة، فاعلموا أننا ننتظر منها المصائب والكوارث، ولا ننتظر منها الترياق!
إنْ كان هناك من معارض لهذه الحقيقة، وغيور على الولايات المتحدة وسياساتها المدمرة، فليقلها، وليثبت لنا بالأدلة القاطعة، شرط أن لا يكون مسبقاً على لائحة «الشرف» الأميركية التي تضمّ عملاء ومرتزقة، وأن لا يكون أيضاً على لائحة «المكرمات»، والمستفيدين من دفع الأجر الدائم…!
د. عدنان منصور
لبنان/ وزير الخارجية والمغتربين الأسبق