قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، التي عُقدت في واشنطن بين 10 و 11 تموز/ يوليو 2024، أبرزت ضخامة التحديات التي تواجه دول الحلف البالغ عددها 32 دولة، حيث انضمّ الى اجتماعاته قادة ورؤساء أربع دول من شرق آسيا، حليفة للولايات المتحدة وهي اليابان، كوريا الجنوبية، نيوزيلاندا وأستراليا. كما اجتمع قادة الحلف مع «بيت القصيد» رئيس أوكرانيا زيلينسكي.
كان الشغل الشاغل للحلف، صبّ الجهود على توحيد الصفوف في مواجهة روسيا والصين اللتين تربطهما حالياً علاقات استراتيجية متينة مقلقة جداً للغرب، إذ لم يخفِ قادة الناتو هواجسهم من موقف بكين الداعم لروسيا في حربها في أوكرانيا سياسياً، وتكنولوجياً، ولوجستياً. وإذا كانت الصين لا تقدّم الدعم العسكري المباشر لروسيا في حربها في أوكرانيا، إلا أنّ قادة الحلف ندّدوا بتزويد الصين لروسيا بالتكنولوجيا المزدوجة المدنية والعسكرية، التي أتاحت لموسكو زيادة إنتاجها من الأسلحة وتعزيز قوتها في أوكرانيا.
ما دفع بوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن على هامش المؤتمر، كي يشير الى أنّ 90% من المكونات الالكترونية التي تستوردها روسيا تأتي من الصين.
يجيء هذا الدعم في وقت يأخذ الحلف الأطلسي في حسابه تهديدات الصين في المحيط الهادئ، والاتفاق الاستراتيجي الأخير بين روسيا وكوريا الشمالية، الذي أرساه الزعيمان الروسي والكوري الشمالي، فلاديمير بوتين وكيم جون أون يوم 19 حزيران/ يونيو الماضي، حيث قرّرت كوريا الشمالية تكثيف تزويدها لروسيا بالمعدّات العسكرية التي تحتاجها في حربها ضدّ أوكرانيا.
من جهته، قرّر الحلف الأطلسي، الاستمرار في دعم أوكرانيا من خلال تزويدها بالمقاتلات «أف 16»، كما تعهّد الحلفاء بتقديم 40 مليار دولار لها كمساعدات عسكرية لهذا العام، والتزامهم بنشر 5 بطاريات صواريخ أرض – جو جديدة، مع الإشارة الى انّ الحلف لم يحدّد موعداً لانضمام أوكرانيا رسمياً إليه، وهذا ما شكّل خيبة أمل لزيلينسكي.
قمة الناتو أسّست ولا شك، مرحلة حساسة جديدة من التصعيد بين روسيا والحلف الأطلسي، وذلك بعد إعلان الحلف في بيانه الختامي، أنّ روسيا تشكل تهديداً لدوله، مع تأكيده على توسيع مجال الحلف مستقبلاً دون تحفظ ليشمل أوكرانيا، والعمل على تعزيز قدراته العسكرية.
شركاء الحلف في المحيط الهادئ الأربعة، الذين حضروا اجتماعاته في واشنطن، اجتمعوا أيضاً مع مسؤولين في الاتحاد الأوروبي، والمفوضيّة الأوروبيّة، لمناقشة الوضع القلق المتزايد في منطقة الأورو-أطلسي، ومنطقة المحيطين الهادئ والهندي لجهة الأمن فيهما، وبالذات بعد تنامي العلاقات العسكرية والاقتصادية والاستراتيجية بين روسيا وكوريا الشمالية، ودعم الصين للقاعدة الصناعيّة الدفاعية لروسيا. كما ركز الحلف والدول الآسيوية الأربع على تفعيل المشاركة للحلفاء لحفظ الأمن الدولي في المحيطين الهندي والهادئ، وتبادل المعلومات، والمشاركة في مشاريع الذكاء الاصطناعي وغيرها.
جاء ردّ الكرملين سريعاً على بيان قمة الحلف الأطلسي متهماً إياه إصراره الحفاظ على المواجهة والتوتر في أوروبا. وفي ردّ عنيف عليه صرّح رئيس مجلس الأمن القومي الروسي ميدفديف قائلاً: «إنه يتعيّن على روسيا أن تفعل كلّ شيء حتى ينتهي طريق أوكرانيا الذي لا رجعة فيه إلى الناتو باختفاء هذا البلد والحلف نفسه».
الصين من جهتها، دانت بيان القمة، معتبرة إياه أنه «مشبع بعقلية الحرب الباردة وبخطاب مليء بالافتراءات».
يبدو أنّ الحلف الأطلسي مصمّم على توسيع نطاق المواجهة، وخوض حرب استنزاف طويلة المدى ضدّ روسيا من خلال الدعم العسكري المتواصل لأوكرانيا، بعد أن أصبح على قناعة تامة باستحالة إلحاق أوكرانيا هزيمة عسكرية مباشرة بروسيا. كما كشفت القمة عن نيّتها توسيع جغرافية الحلف الى شرق البلقان، والبحر الأسود، واستعداد واشنطن نشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى بشكل دائم في ألمانيا عام 2026، مما سيدفع بروسيا بالردّ على الخطوة الأميركية بنشر أنظمة صواريخ مماثلة.
لكن هذا لا يمنع من ارتفاع أصوات داخل الحلف ترفض زجّ الناتو في منطقة الهادئ، حتى لا يكون أداة في يد واشنطن، وأسيراً للتوترات الصينية الأميركية.
رئيس وزراء هنغاريا Victor Orban فيكتور أوربان الذي تولّت بلاده رئاسة الاتحاد الأوروبي يوم 1 تموز، قام يوم 5 تموز بزيارة الرئيس الروسي بوتين في الكرملين، كما قام عشيّة اجتماع الحلف بزيارة للرئيس الصيني شي جين بينغ، آملاً بتهيئة الأرضية لإجراء مفاوضات حول السلام في أوكرانيا. جاء موقف الرئيس الفرنسي ماكرون سلبياً عندما قال إنّ أوربان لا يحمل أيّ تفويض من الاتحاد الأوروبي، وإن تحركه لا يلزم إلا هنغاريا!
السؤال الذي يُطرح: ماذا عن المنطقة المشرقيّة؟!
يبدو أنّ الحلف الأطلسي في قمته الأخيرة يتجه نحو المواجهة والتصعيد في منطقتين استراتيجيتين حيويتين في أوروبا والباسفيك.
لكن ما هو دوره في المشرق الملتهب، والحرب الدائرة في قطاع غزة وجنوب لبنان، والغليان المتأجّج في الضفة الغربية! إنّ الولايات المتحدة التي تتزعّم الحلف الأطلسي، لن تتخلى عن مصالحها في أوروبا ولا عن نفوذها ووجودها في جنوب شرق آسيا، ولا في منطقة غربي آسيا. وما دام لها حلف الـAUKUS في آسيا، والناتو في أوروبا ودميته زيلينسكي، هناك أيضاً في المشرق نتنياهو وزمرته العسكرية في «إسرائيل»، الذي يعرف جيداً مدى دعم الغرب له ووقوفه الى جانبه مادياً وعسكرياً ولوجستياً، غير عابئ بما يرتكبه جيشه من إبادة جماعية ومجازر وحشية بحق الفلسطينيين، طالما أنه يلتقي مع أهداف الحلف في التخلّص من المقاومات في المنطقة، وتثبيت الوجود الأميركي والإسرائيلي، بدعم ومباركة ضمنية من حلفاء واشنطن و»إسرائيل» الدائمين في المنطقة.
من هنا، يجب أن لا يسقط من حسابنا مطلقاً، عزم نتنياهو وصقور حربه في تل أبيب، وإصراره على توسيع رقعة الحرب الى أبعد مداها في قطاع غزة ولبنان، وأن لا يغيب عن أذهاننا لحظة، ونستبعد عزم نتنياهو على «تطهير» غزة من مقاومتها وسكانها، مهما كلّف «إسرائيل» من ثمن باهظ، لأنه يعرف مسبقاً أنّ قوى الغرب وحلفاءه سيقفون بكلّ قوة الى جانبه.
نتنياهو الهارب الى الأمام مثله مثل المغامرين المجرمين العسكريين، الرافض للدولة الفلسطينية
ومعه الكنيست، يرى في توسيع نطاق الحرب، وزجّ واشنطن والغرب فيها، أمراً ملحاً وضرورياً لحماية الوجود «الإسرائيلي»، وأنّ أيّ وقف دائم لإطلاق النار، ووقف العدوان، يعني هزيمة كاملة لـ «إسرائيل» في الميدان، لن تقبل به واشنطن، ولا جزار تل أبيب.
زيلينسكي ونتنياهو، كلاهما حصان طروادة في خدمة الأميركي، وقاعدة متقدّمة له، من خلالها يحقق أهدافه ومصالحه واستراتيجيته، وإنْ كان الأول سيهزم في أوكرانيا، والثاني سيمرّغ أنفه في تراب غزة وجنوب لبنان.
قمة الحلف الأطلسي عمّقت الهوة الممتدة، من أوروبا مروراً بالمشرق العربي وصولاً الى شرق آسيا، واضعة العالم أمام حرب باردة جديدة، يتجاذبها قطبان: قطب بزعامة الولايات المتحدة يضمّ دول الأطلسي والأكوس وما بينهما «إسرائيل» وحلفاؤها في المنطقة، وقطب آخر يضمّ روسيا والصين وكوريا الشمالية، ومجموعة دول شنغهاي وبريكس، والعديد من الدول المناهضة لقوى الهيمنة الغربية في أميركا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط.
روسيا والصين ترسمان معالم الطريق لعالم جديد، سوف تتنحّى فيه الولايات المتحدة قسراً وبالضرورة عن قيادتها للعالم، وليس بإرادتها وخيارها، كما تصوّر يوماً رئيسها الأسبق ريتشارد نيكسون…!
د. عدنان منصور
لبنان/ وزير الخارجية والمغتربين الأسبق