بعد أن سبق لوسائل الإعلام على أنواعها أن تناولت بإسهاب الخلافات الشكلية بين نتنياهو والإدارة الأميركية، وركزت على نهج سياساته المتبعة في حربه على غزة، وبعد خطابه الذي ألقاه في الكونغرس الأميركي، وعودته الى «إسرائيل»، بدا واضحاً للعالم كله، انّ نتنياهو قرّر الذهاب الى أبعد الحدود في عدوانه على غزة والضفة الغربية ولبنان.
هذا القرار أبلغه علناً للكونغرس الأميركي دون أي اعتبار لموقف الولايات المتحدة، والأمم المتحدة، ولا لأي دولة في العالم أو اكتراث بالمجتمع الدولي.
نتنياهو يعتبر هذه الحرب، حرباً مفصليّة للكيان، ستقرّر ليس فقط مصير المقاومات في فلسطين وخارجها، وإنما مصير الشرق الأوسط برمّته. إذ أنّ مجرم الحرب يريد إخضاع حلفائه، ولا يخضعونه، يتمرّد عليهم ويطلب منهم المزيد من الدعم العسكري والمالي، دون أن يجرؤ أحد على الاعتراض أو الرفض. لقد قالها نتنياهو علانية عندما وجّه كلامه لرئيس الدولة العظمى: ليس هناك من قوة على الأرض تستطيع أن تضغط علينا، أكان في الداخل أم في الخارج! وقال منذ ثلاثة أيام: «قضينا على آلاف المقاتلين من حماس، وعلى البنى التحتية… وعملنا على إعادة مواطنينا الى بيوتهم، وقد حققنا كلّ ذلك لأننا لم نستسلم رغم الضغوط من الداخل والخارج، ولن نستمع الى هذه الأصوات بعد ذلك. لم ولن نخضع لأيّ ضغوط بشأن إيقاف الحرب في قطاع غزة، ولو كنت خضعتُ لها لما قتلنا مسؤولي حماس أو سيطرنا على محور فيلادلفيا ومعبر رفح».
لا زال العديد منا، لا سيما في لبنان، يتوهّم انه يمكن الاعتماد على مواقف واشنطن «النزيهة» إزاء الصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، وإزاء الحرب الدائرة الآن في قطاع غزة وجنوب لبنان. هؤلاء لا يريدون أن يقتنعوا بأنّ سياسة الولايات المتحدة و»إسرائيل» المتعلقة بالمنطقة، سياسة واحدة لا تنفصم في الرؤى والأهداف والتنفيذ العملي.
ما يصدر عن واشنطن من تصريحات علنيّة تدعو الى التهدئة، ليست إلا تصريحات مخادعة، وجرعات مسكنة إزاء تطوّرات الأوضاع في المنطقة، ولا تعكس حقيقة الدور الأميركي، وأخلاقية السياسة الأميركية المنحازة بالكامل دون ضوابط، والداعمة، والمؤيدة بالمطلق للكيان المحتلّ، في كلّ ما فعله ويفعله ضدّ شعوب المنطقة ودولها. إذ أثبتت واشنطن في كلّ مرّة أنّها ليست على استعداد أن تنتقد او تعارض او تدين «إسرائيل» عندما تقوم بأيّ عمل عدواني ضدّ دولة ما في المنطقة مهما كانت فظاعته. بل على العكس، يدفعها تحالفها مع تل أبيب الى تغطية عدوانها، وتبرير أفعالها، والتنسيق معها على مختلف الصعد، وتعطيل أيّ مشروع قرار أممي يدينها. ألم يؤكد نتنياهو على حقيقة هذا التحالف، عندما خاطب أعضاء الكونغرس قائلاً بصوت عالٍ: «نصرنا نصركم وأهدافنا اهدافكم!».
من هنا، تجد «إسرائيل» نفسها اليوم حرة، غير مكبّلة في اتخاذ القرار الذي يسمح لها في أيّ وقت، بشنّ عدوان شرس على أي دولة، غير عابئة بردود فعل الآخرين، لا سيما الدول الكبرى ومجلس الأمن، لأنها تعرف جيداً أنها وإنْ لم تتمتع بحق الفيتو في مجلس الأمن، فإنّ هناك مَن ينوب عنها على الدوام لاستخدام هذا «الحق» ضدّ أيّ مشروع قرار يدينها او يحمّلها المسؤولية عما تقوم به.
نتنياهو الذي قرّر القيام بعدوان على مبنى سكني في شارع مكتظ في الضاحية الجنوبية لبيروت، أوْدى بحياة سبعة شهداء، وعشرات الجرحى من المدنيين، وعلى رأسهم القائد العسكري شهيد المقاومة ولبنان السيد فؤاد شكر. وبعدها بساعات عدوان على إيران استهدف القائد الفلسطيني شهيد فلسطين إسماعيل هنية، يريد أخذ المنطقة الى الانفجار الكبير، وهي تتدحرج شيئاً فشيئاً بين الفعل وردّ الفعل.
نتنياهو الغريق في مستنقع غزة، والمأزوم في جنوب لبنان، لم يستطع بعد عشرة أشهر من العدوان الخروج من المستنقع بنصر يريده على قياسه.
لذلك هو مصمّم على تصعيد العمليات العسكرية الى أبعد الحدود، معتمداً على الدعم المادي والعسكري والمعنوي اللامحدود من الولايات المتحدة وأوروبا، وعلى سكوت وصمت مريب من دول عربية ودعم ضمني منها، حيال ما يقوم به، وهو الذي نوّه بعلاقاته الجيدة معها في خطابه مؤخراً أمام الكونغرس الأميركي.
نتنياهو لن يتردّد في إشعال المنطقة، وهو يعمل على ذلك دون تردّد، إذ بإشعالها يريد توريط واشنطن ودول أوروبية داعمة لـ «إسرائيل»، من أجل حملها على مشاركته في القضاء على المقاومات فيها وبالذات تصفية حساب طويل مع إيران وحلفائها.
في زمن السلم، تكون «إسرائيل» قاعدة للغرب وحامية لمصالحه في غربي آسيا، وهي الجدار الذي اعتبره نتنياهو الفاصل بين الحضارة والبربرية، وفي زمن الحرب، تصبح الولايات المتحدة وأوروبا معها، قاعدة عسكرية متقدمة لـ «إسرائيل»، تحمي وجودها ومصالحها، مهما كانت التداعيات الكارثية على دول المنطقة وشعوبها.
بين الفعل وردّ الفعل، يبحث مجرم الحرب عن نصر وهميّ ينقذه ولو بحدّه الأدنى، غير متردّد بزجّ دول إقليمية ودولية كإيران، والولايات المتحدة وغيرها في حرب واسعة يريدها بالنيابة عنه.
نتنياهو يعرف جيداً أنّ ما قام به من عدوان متعمّد على الضاحية، رغم «تطمينات واشنطن الخادعة» للمسؤولين اللبنانيين الذين صدّقوه، والعدوان المزدوج على إيران، الذي طال الدولة الإيرانية وقائد حماس، شهيد فلسطين إسماعيل هنية، عدوان ستكون له تداعياته الأمنيّة الخطيرة لاحقاً.
ما يفعله جزار تل أبيب اليوم، هو إدخال المنطقة في نفق الفعل وردّ الفعل بين أطراف إقليمية ودولية. إذ انّ تورّطها المباشر سيخفف عن «إسرائيل» أعباء كثيرة ليس بمقدورها تحمّلها وحدها. إذ أنّ نتنياهو أصبح في وضع حرج لا يسمح له القبول بإنهاء الحرب، ووقف إطلاق نار دائم قبل تحقيق أهدافه التي فشل في التوصل اليها حتى الآن. لذلك يرى ان ليس أمامه سوى توسيع نطاق الحرب، وتكثيف العمليات العسكرية، وهو أسلوب فاشل اعتمدته الدول المستبدّة، وهي تواجه مقاومات الشعوب لاحتلالها لأرضها. لن تكون «إسرائيل» أفضل حالاً من الدول التي مرغت مقاومة الشعوب أنفها في تراب أوطانها، وما حرب اليابان في كوريا والصين، والولايات المتحدة في فيتنام وأفغانستان والعراق، وفرنسا في الجزائر، وإيطاليا في ليبيا، والعدوان الثلاثي على مصر، وبريطانيا في جنوب اليمن المحتلّ، إلا النموذج الحيّ على ما ينتظر دولة العدوان في تل أبيب.
الآتي من الأيام يحمل في طياته الكثير من التحدّي، والعدوان والتصعيد العسكري، وصولاً إلى الانفجار الكبير.
مسؤولية وقف إطلاق النار الدائم، وخفض التصعيد، وتعطيل فتيل الانفجار تقع على عاتق مجرم الحرب في تل أبيب، وعلى داعميه في واشنطن وبروكسل؟
لا يبدو في الافق انّ نتنياهو ينحو باتجاه وقف إطلاق النار قبل تحقيق هدفه.
هدف بعيد المنال ولن يتحقق، لذا سيستمرّ في التصعيد وجرّ المنطقة الى الانفجار الكبير، إلا إذا شربت واشنطن في اللحظة الأخيرة حليب السباع، وأوقفته عند حدّه، وواجهت «إسرائيل» ولو لمرة واحدة لتعطيل فتيل الحرب الشاملة قبل أن يشعله نتنياهو.
هل يحصل ذلك وإنْ كان الأمل ضعيفاً في اتخاذ واشنطن موقفاً حازماً تجاه نتنياهو، الذي وصفه السناتور في الكونغرس الأميركي بيرني ساندرز بمجرم حرب!
تطوّر الأوضاع، ونهضة المقاومات وتجذّرها في المنطقة، واستماتتها في الدفاع عن وجودها، وأرضها، تؤشر كلها إلى مرحلة جديدة، حيث بدأنا نشهد فيها تخلخل جذور الكيان من الداخل والخارج الذي يمهّد إلى يباسه، وإنْ وقف الى جانبه من وقف، ودعمه من دعم.
إذا كان النصف الثاني من القرن العشرين شهد زرع الكيان «الإسرائيلي» بالقوة، يبدو أنّ النصف الأول من القرن الحادي والعشرين بدأ يؤشر إلى أفول هذا الكيان الى غير رجعة؟! وحدها مقاومة الاحتلال ستنهي وجوده وإنْ كان الثمن غالياً!
إنّها مسألة وقت لن يكون طويلاً…
د. عدنان منصور
لبنان/ وزير الخارجية والمغتربين الأسبق