في الليالي الظلماء، أفل النجم الساطع عن لبنان! في زمن القحط السياسي، والانحطاط المؤسساتي والأخلاقي والاجتماعي، قل فيه الزعماء والشرفاء والزهاد، رحل سليم الحص بعيداً عن لبنان تاركاً وراءه وطناً جريحاً، وشعباً مسحوقاً، أحبه وعاش في ضميره الحي، كما عاشت أمته في فكره وعقله ووجدانه، حيث كان لفلسطين بالذات موقعاً خاصاً في قلبه.
غادرنا سليم الحص في وداع أخير الى عليائه، يبكي لبنان، كارهاً وماقتاً السياسيين المغامرين المقامرين بمستقبل وطن، وهو الذي لم يلوّث يده يوماً، ولم يسخّر منصبه ليجعله في خدمته، وخدمة عائلته، وحاشيته، كما فعل ويفعل الآخرون من تجار المبادئ، ومقاولي السياسة وسماسرتها.
لم يكن لدى سليم الحص جوقة من الانتهازيين، والمطبّلين، والكذابين، والنفعيين، والوصوليين، واللصوص العابثين بمصالح الوطن وحقوق شعبه… لم يلوّث يده يوماً بصفقة، أو استخدام النفوذ، او الانتفاع من هندسة مالية، او تعدّ على الأملاك العامة، او الحصول على قروض يستفيد منها كما يفعل الآخرون. ظلّ عزيز النفس، كريماً، أبياً، شامخاً، جسّد مدرسة راقية رفيعة المستوى لا ينتمي إليها إلا كلّ وطني شريف نزيه، إذ كان شعاره دائماً:
«يبقى المسؤول مسؤولاً الى أن يطلب شيئاً لنفسه». فكان له سلوكه وكان للآخرين سلوكهم .
سليم الحص لم يبدّل ولم يتبدّل، بقيَ ثابتاً على القيَم والمبادئ الأصيلة، لا يساوم ولا يتراجع، يقول قول الحق وإنْ كره الحاقدون، والمفسدون، والفاسدون.
سليم الحص لم يرض يوماً ان يعزف كما عزف المنافقون والطائفيون، والمنتفعون، على الوتر الديني، أو المذهبي ليرفع الخطوط الحمر عند كلّ استحقاق وطني، ولم يحتمِ وراء الستار الطائفي، لتمرير الصفقات والنهب والسرقات.
عيبُك سليم الحص، أنك لم تترك قصوراً ولا عقارات، ولا ناطحات سحاب، ولا مصارف، ولا يخوت، ولا طائرات خاصة، ولا أرصدة مالية تغذت من دماء الشعب وعرقه، ولا أموالاً من جمعيات «إنسانية» صورية.
عيبُك سليم الحص، أنك لم تستغلّ منصبك لتجمع مالاً فاسداً حراماً، عندما كنت أزورك في مكتبك المتواضع، كنت أرى المحتاجين يتردّدون اليك، فتمدهم من جيبك الخاص، بصمت النبلاء، بما تيسّر، دون إعلام، وصوَر، ومنّة، ودعاية، وضجيج.
ستبقى سليم الحص كبيراً ناصعاً في ذاكرة تاريخ وأجيال اللبنانيين، ونموذجاً حياً وعبرة للآخرين وأنت في لحدك، أما الأقزام الذين نالوا منك، وأرادوا ان يبعدوك عن الساحة، لم يقزموا إلا أنفسهم، ولم ينالوا من هامتك المشبعة بالكرامة وعزة النفس، واحترام الذات. رحلت وأنت كبير، وبقيَ الأقزام المنافقون داخل الهيكل، يلهثون وراء المناصب، يعبثون بالوطن وكرامة إنسانه.
سليم الحص، رجل الدولة من طراز رفيع، وصل الى الحكم بكفاءته ونزاهته، وجدارته، ولم يصل اليه عبر عائلة سياسية اقطاعية، أو عبر المال الحرام، أو بالوراثة القبيحة المقيتة.
سليم الحص، بكيت لبنان في محنته… والآن يبكيك لبنان ضميره على رحيلك عنه وانت ضميره، خاصة بيروت الأبية، وابناؤها الأوفياء، بيروت التي أحببتها وأحبتك، وإنْ أخطأت بحقك يوماً… فأنت وإنْ رحلت عنا، فذكراك الوطنية العطرة، ستظلّ راسخة في نفوس كلّ الذين واكبوا مسيرتك الوطنية المشرّفة، وعرفوا فيك معدنك الوطني والعربي الأصيل.
رحمك الله سليم الحص، وسلام عليك وأنت في عليائك مع الأبرار والصالحين.
د. عدنان منصور
لبنان/ وزير الخارجية والمغتربين الأسبق