بعد استهداف «إسرائيل» عدداً من قادة المقاومة، وتفجير أجهزة الـ «بايجر» وأجهزة اللاسلكي بخمسة آلاف شخص والذي أوْدى بحياة عشرات الشهداء وجرح الآلاف، وأتبعتها في ما بعد بعدوان همجي أوْدى بحياة قائد المقاومة، الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، ظنّ مجرم الحرب في تل أبيب، أنّ ما فعله جيش الإرهاب بحق المقاومة، سيبدّد عزيمتها، وعزيمة بيئتها الشعبية، ويفكك قدراتها، ويُضعف إمكاناتها. لذلك لجأ نتنياهو إلى استخدام القوة المفرطة بارتكاب أفظع المجازر بحق سكان المدن والقرى اللبنانيّة متعمّداً تهجير ساكنيها، علّ ذلك يؤلّب الحاضنة الشعبية ويدبّ اليأس في قلوب اللبنانيين ومقاومتهم، ويُجبرهم على رفع الراية البيضاء، ويدفعهم إلى تهجيرهم، ومن ثم فرض الأمر الواقع «الإسرائيلي» على لبنان.
لا شك في أنّ الاعتداءات المتواصلة التي نفّذتها «إسرائيل»، كانت موجعة وثقيلة ومدمّرة، لا سيما بعد اغتيال قائد المقاومة وعدد من أبرز القادة العسكريّين في حزب الله. لكن هذا لم يمنع مطلقاً المقاومة من استيعاب الصدمة سريعاً، وإعادة رصّ صفوفها، وتشكيلاتها وتنظيماتها، لتأخذ المبادرة من جديد بكلّ قوة وحزم لمواجهة العدو واعتداءاته اليومية.
لقد أراد نتنياهو وطغمته العسكرية انتهاز الفرصة كي تنقضّ ألوية جيشه على المقاومة براً، ويبدأ بالتوغل داخل الأراضي اللبنانية لاحتلالها من جديد، فإذ بالمقاومين يجعلون من بلدات الجنوب اللبناني صيداً ثميناً لجنود جيش الإرهاب وضباطه.
لم تتعلّم «إسرائيل» من دروس المقاومة التي مرّغت أنف جيشها عام 2006 في وادي الحجير، ولم تأخذ العبرة من المقاومين الذين آلوا على أنفسهم أن يدحَروا جيش الاحتلال بعزيمة أكبر بكثير مما كانت عليه عام 2006 وهم يختزنون في داخلهم مبادئ، ونهج، ووصايا سيد المقاومة التي ترافق عقلهم ونضالهم ضدّ الغزاة والمحتلين.
إنّ اللبنانيين اليوم بكلّ طوائفهم وأحزابهم وتياراتهم الفكرية والعقائدية والسياسية أمام مسؤوليتهم الوطنية والتاريخية لمواجهة قوى العدوان.
«إسرائيل» لا تستهدف طائفة أو حزباً معيناً، بل تستهدف في العمق بلداً بأكمله، ظلّ هدفاً استراتيجياً لها قبل تأسيس الدولة العنصرية في فلسطين وبعده.
لقد أظهر اللبنانيون بكلّ طوائفهم وأطيافهم السياسية موقفاً إنسانياً رائعاً ومشرّفاً إلى جانب أبناء بلدهم من النازحين جراء العدوان «الإسرائيلي» عليهم، وأثبتوا أنهم فعلاً أبناء وطن واحد، وأنّهم في سفينة واحدة، إنْ غرقت غرق معها الجميع.
فالعدو لا يرحم ولن يتوقّف عن أطماعه وعن شهيّته لابتلاع لبنان بأيّ شكل من الأشكال، وفي أيّ فرصة سانحة له.
إذا كان هناك بعض اللبنانيين من كلّ الطوائف ما زالوا يغرّدون خارج السرب الوطنيّ، وخارج مصالح لبنان القوميّة والوجوديّة، فإنّ معظم اللبنانيين الذين وقفوا وقفتهم المشرّفة إلى جانب أبناء بلدهم في محنتهم، عليهم أن يعلموا أنّ الخريطة التوراتيّة التي تلوّح بها «إسرائيل»، ويلوّح بها مجرم الحرب في تل أبيب، أن هذه الخريطة تشمل في ما تشمل لبنان بأكمله كي يكون فريسة لدولة العدوان عند أول فرصة سانحة لها.
قد يختلف اللبنانيون سياسياً حول أمور ومسائل داخليّة، فهذا أمر طبيعي، مثل ما يحصل في سائر بلدان العالم.
لكن عندما يتعرّض لبنان وشعبه لتهديد وجوديّ، ويكون على لائحة شهيّة العدو لافتراسه، عندئذ تسقط كلّ الخلافات السياسيّة، ووجهات النظر، وتسقط معها الحساسيّات، والهواجس والحذر والمخاوف من الآخر، لأنّ ما هو أكبر من الخلافات والحساسيّات، الذي يهدّد وجود لبنان في وحدة شعبه، وأرضه، ومصيره، هي الخريطة التوراتيّة التي لن توفر بقعة من لبنان، ولا طائفة من الطوائف فيه.
أنظروا إلى ما فعلته «إسرائيل» بحقّ كلّ الطوائف في فلسطين بعد احتلالها، وهي تنظر إليهم نظرة «شعب الله المختار» الى الغوييم من غير اليهود الذين تعتبرهم مخلوقات دون الحيوانات.
إنّ وحدة اللبنانيين في هذه الأيام بكلّ طوائفهم، وما عبّر عنه بالذات وفعله أبناء الطوائف المسيحية الكريمة، ليثبت للعالم مدى نخوتهم، وعاطفتهم، وإحساسهم الإنساني عند الشدائد، وليبيّن مدى المسؤوليّة والأصالة للبنانيين وهم جميعاً في مركب واحد، يواجهون دولة عنصرية متوحشة، مشبعة بالقتل والإرهاب. فهي إنْ وفرت اليوم فريقاً لبنانياً، فلن توفره في المستقبل، طالما أنّها دولة تستند في تكوينها إلى منطق الحروب، واللجوء إلى سياسة القضم والضمّ للأراضي التي تحتلها.
في هذه الحرب الدائرة مع العدو «الإسرائيلي»، لا بدّ للبنان أن يدحر العدوان، وهذا يتحقق بوحدة اللبنانيين نهجاً وعملاً وسلوكاً وأداء.
على مدار السنوات الأخيرة، كانت الخلافات السياسية بين الأفرقاء اللبنانيين مخزية ومعيبة، وفاشلة، عرّت لبنان أمام دول العالم ومسؤوليه، وفضحت عجزهم في إدارة الدولة ومؤسساتها، واحترام دستورها وقوانينها. إلا أنّ وقوفهم اليوم أمام قضية وطنية وجودية ومصيرية وقفة واحدة، يعيد الأمل الى الحياة السياسية اللبنانية من جديد، لجهة تعزيز وحدة اللبنانيين وانتمائهم الأصيل للبنان، وإزالة الاحتقان الداخلي، ووقف الانقسام الحادّ بين زعمائه، وهو انقسام كيديّ مقيت، أرهق لبنان وشعبه منذ عدة سنوات، وكلفه الكثير لا زال يعاني منه حتى الآن.
لبنان اليوم في مواجهة أخطر محنة تهدّد وجوده ومستقبله، وما شاهدناه من نخوة اللبنانيّين تجاه بعضهم البعض، لا بدّ من أن نشاهده في موقف إنقاذيّ موحّد يتخذه قادته وزعماؤه لوضع حدّ للعدوان «الإسرائيلي»، بما يكفل حماية لبنان وأرضه وسيادته.
قادة لبنان وزعماؤه أمام مسؤوليتهم التاريخية، وهم اليوم في هذه الظروف الخطيرة على المحك في ما سيفعلون، وإنّا لمنتظرون…
د. عدنان منصور
لبنان/ وزير الخارجية والمغتربين الأسبق