لبنان كنائس بلا أجراس ومآذن بلا نداءات وذاكرة جريحة على لسان من بَقِيَ

الإعلامية لين ضاهر
0

في لبنان، أصبح الدمار لغةً بليغة تنطق بها كل زاوية وكل شارع. مشهد المنازل المنهارة، والأحياء المحترقة، لم يعد استثناءً بل صار واقعاً مستمراً، يتسلل بصمتٍ إلى ذاكرة من عاشوه، فيطبع بها صوراً لا تُمحى، مهما مرت الأيام.

بين أطلال المنازل القديمة، تقف الكنائس شامخةً بلا أجراس، والمآذن بلا نداءات. صمتٌ كئيب يسكن الأجواء، وكأنّ الأرض اكتفت من الشكوى، وكفّت السماء عن الإصغاء. لم تعد الأصوات هنا أصوات حياة؛ صارت صرخات مدفونة تحت الأنقاض، وآهات لا يسمعها سوى من نجا منها الأطفال في لبنان لم يعودوا يعرفون طعم الفرح، فقد كبروا قبل أوانهم في حضرة الفاجعة. بين أيديهم الصغيرة، يمسكون بألعابٍ محطمة، وأحلامٍ منسية في زوايا الذاكرة. كان العالم في عيونهم ضيقًا كأنقاض منزل، وكانت الأحلام قصيرةً كنفسٍ قُطع عند أول دوي انفجار.

وجوههم شاحبة، وعيونهم جافة من فرط البكاء، كما لو أن الدموع أصبحت ترفاً في زمن الخراب. تحت قبة كنيسةٍ تهشمت نوافذها، يجتمع من تبقى من المؤمنين، يتلون الصلوات بصوتٍ خافت، يخافون أن توقظ همساتهم غضب السماء. وعلى بعد خطوات، يرفع رجلٌ يده بالدعاء في مسجدٍ بلا مئذنة، يناجي الله بصوتٍ مبحوح، يستجدي رحمةً لم يعد يؤمن أنها ستأتي.

في تلك اللحظات، لم يعد هناك مسلمٌ أو مسيحي، بل هناك فقط بشرٌ يسألون: كيف يمكن أن تظلّ الأرض تحمل كل هذا البؤس، دون أن تتصدع؟ وفي كل يوم، تجرف الأيام معها بقايا ما كان، وتترك خلفها أطياف الماضي كأشباحٍ تتجول في شوارع بيروت. كل نافذة مغلقة، وكل بابٍ محطم، يحكي عن منزلٍ كان مليئًا بالصخب والحب، وعن عائلةٍ تفرقت كأوراق الخريف. حتى الطرقات، تلك التي كانت تتباهى بأشجارها وبأقدام المارة، باتت الآن مهجورة كأنها فقدت الذاكرة.

يستمر اللبنانيون في العيش، ليس لأن الحياة تُغريهم بشيء، بل لأن الموت لم يمنحهم الخيار.

كل صباح، يُعاد ترتيب الفوضى بانتظار فوضى جديدة، وكل يوم، يفتحون أعينهم على واقعٍ لا يشبه سوى الكوابيس. تختلط في الذهن أصوات الانفجارات بصوت الأذان ودقّات الأجراس، ويصبح الوجع هو العزف الوحيد الذي تتوحد عليه القلوب، بلا فرقٍ بين دينٍ وآخر.

لبنان لم يعد وطناً، بل صار ذاكرةً جريحةً تُروى على لسان كل من بقي. في عيون الكبار، انعكاسٌ لماضٍ لن يعود، وفي وجوه الأطفال، تساؤلٌ دائم: لماذا لا تنتهي هذه الحرب؟

الإعلامية لين ضاهر

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.