لم تشهد سورية في تاريخها وخلال ساعات قليلة، عدواناً عسكرياً مدمراً مزلزلاً بكلّ المقاييس على أرضها.
النظام الجديد أياً كان موقعه أو موقفه من «إسرائيل» سلباً أم إيجاباً، وأياً كان اعتباره لها عدوّة أو صديقة مستقبلاً، عليه أن يدرك جيداً، شهية «إسرائيل» على العدوان والاحتلال والقضم والضمّ، عملاً بالنصوص التوراتيّة والتلموديّة، والمفاهيم الصهيونيّة.
ما قام به جيش الاحتلال «الإسرائيلي» خلال ساعات قليلة بالقضاء على الترسانة العسكرية السورية التي راكمتها سورية على مدى سبعة عقود، دون أيّ ردّ فعل من جانب النظام الجديد، يثير تساؤلات كثيرة، خاصة في هذه الظروف الحساسة للغاية، حيث شهدت المنطقة زلزالاً سياسياً وعسكرياً وضع مستقبل المنطقة وأمنها القومي، وبالذات الأمن القومي السوري والعربي في نفق مجهول.
كيف يمكن تفسير وفهم صمت النظام الجديد وفصائله المسلحة، وصمت غالبية دول العالم العربي، والأمم المتحدة والمجتمع الدولي حيال عدوان «إسرائيل»، وما قام به جيش الاحتلال باجتياح ما تبقى من الجولان وأبعد من الجولان، وقيام سلاح الجو بأكثر من 350 طلعة جوية، مُدمّراً القواعد والمطارات العسكرية، وأسراب الطائرات الحربية المقاتلة، وقواعد الصواريخ وبطارياتها، والرادرات، ومستودعات الأسلحة، والمدرّعات والدفاعات الجوية، وسفن الأسطول العسكريّ في موانئ اللاذقية وإغراقه، وأيضاً تدمير أنظمة الدفاع الجوي، والمصانع العسكرية، والمنشآت الأمنيّة، ومراكز البحوث العلمية، والقدرات العسكرية المعرفية والاستراتيجية، ومقار الحرب الإلكترونية، والألوية الدفاعية، ومراكز البحوث العسكرية، ومقار الاستخبارات والمراقبة.
العدوان الجوي «الإسرائيلي» كان وباعتراف العدو الأوسع في العقود الأخيرة. عدوان لم يكن ليحصل لولا تواطؤ تركيا، والولايات المتحدة، ودول غربية مع «إسرائيل».
إنّ استراتيجية «إسرائيل» منذ عقود، ولم تزل، تهدف إلى تدمير ثلاثة جيوش عربية: مصر، العراق وسورية. عام 2003 تولت واشنطن «بالنيابة» عن «إسرائيل»، احتلال العراق، وتدمير كامل ترسانته العسكرية، ومن ثم حلّ جيشه وتفتيته على يد بريمر.
عام 2024، تكرّر المشهد المأساويّ بقيام جيش الاحتلال «الإسرائيلي» بطحن وتدمير شامل للقدرات والترسانة العسكرية السورية، على مرأى من العالم كله، ليجعل من هذه الترسانة جثة هامدة على الأرض.
الولايات المتحدة ومعها «إسرائيل» قرّرت تصفية حساب قديم مع سورية يعود لعام 2000، حيث أرادت واشنطن تحجيم صادرات روسيا من الغاز الى أوروبا والتي تقدّر بـ %70 من صادراتها الكلية، وتحجيم نفوذ موسكو فيها، وذلك من خلال مشروع مدّ أنابيب الغاز القطريّ من قطر بطول 1500 كلم، مروراً بالأراضي السعودية والأردنية والسورية وصولاً الى تركيا ومنها الى أوروبا. رفضت دمشق الانخراط في المشروع، نظراً لأنّ روسيا رأت أنّ خط الأنابيب يشكل تهديداً لوجودها، ومؤامرة من جانب الحلف الأطلسيّ الهادف الى خنق الاقتصاد الروسي، وإنهاء نفوذ موسكو، وأخذاً بالاعتبار العلاقات الثنائيّة المتينة، والمصالح المشتركة التي كانت تربطها بروسيا.
عام 2009 أعلن الرئيس بشار الأسد رفضه توقيع الاتفاق. هنا بدأ التفكير الأميركي ـ «الإسرائيلي» ـ التركي الجدي للإطاحة به وبنظامه، واستبداله بنظام آخر ينخرط في المشروع. مع الإشارة الى أنّ واشنطن سبق لها عام 1949 أن أطاحت بالنظام السوري الذي كان يرأسه شكري القوتلي، بعد رفض البرلمان السوري آنذاك، الموافقة على تمرير خط التابلاين عبر الأراضي السورية بسبب العائدات المجحفة بحق سورية. كان ردّ واشنطن هو تدبير انقلاب عسكري عبر «سي آي إي» أداره رجل مخابراتها مايلز كوبلاند، أطاح بالرئيس شكري القوتلي، وأتى بعميلها حسني الزعيم رئيساً لسورية، ليقوم بعدها بتنفيذ مطالب واشنطن بشروطها السابقة. وهكذا مرّ المشروع الأميركي بهدوء.
كلّ المحاولات الأميركيّة منذ عام 2000 للضغط على سورية لم تؤدِّ إلى نتيجة تريدها واشنطن. كان عليها أن تنتظر عام 2010 لتقوم مع تركيا، ودول عربية، و”إسرائيل”، بتحريك الربيع العربيّ، وخلق حالة من الفوضى الخلاقة المدمّرة للبلدان التي طالها هذا الربيع.
سورية اليوم على طريق المجهول. لا أحد يستطيع أن يتكهّن بما ستؤول إليه الأيام. وما هو دور هذا النظام الجديد بالمفهوم الأميركي ـ التركي، وما هو موقفه تجاه “إسرائيل” بالمفهوم العربي.
لا شك في أنّ الرابح الأكبر حتى الآن هو الثلاثي: “إسرائيل”، تركيا، والولايات المتحدة. الهاجس الأكبر اليوم، هو سورية رغم إسقاط النظام السابق. لأنّ تقسيم سورية هو هدف استراتيجي حيوي للثلاثي، لا يمكن التفريط به بعد الإنجاز الذي تحقق برحيل الأسد. هذا الثلاثي لا يريد وحدة سورية واستقرارها وأمنها، رغم كلّ التصريحات المنافقة الخبيثة، التي تصدر عن المسؤولين الأتراك والأميركيين والأوروبيين!
القلق الكبير على سورية الممدّدة على مشرحة التقسيم، وأيضاً دول غربي آسيا، التي تنتظرها مشاريع التقسيم الجاهزة على يد من ترى هذه الدول في الثلاثي الملاذ، والدعم والترياق لها، دون أن تدري دول المشرق ما ينتظرها من نكبة كبرى فيما هي تغوص في العصر “الإسرائيلي”.
ليكن ما حصل في غزة ولبنان وسورية حافزاً لاستنهاض شعوب الأمة من غفوتها، والتخلي عن عصبياتها، وأفكارها الطائفية المتزمتة، ولامبالاتها تجاه ما يجري على الساحة العربية، والتصارع داخلها، فيما العدو “الإسرائيلي” ينهش كلّ يوم من جسد الأمة وشعوبها.
إنه وقت للصحوة لا للدموع والوقوف على الأطلال. من وسط الركام تنهض الشعوب الحيّة بعد دمار بلادها. أنظروا الى اليابان، وألمانيا وكوريا الجنوبية، والصين وغيرها، ولنأخذ العبرة من شعوبها كيف استعادت مكانتها بين الأمم، بدلاً من لطم وجوهنا متحسّرين على وضعنا الحالي.
حمى الله سورية وشعبها من المفاجآت التي يحملها لها الآتي من الأيام، وما يخبّئه الغرب وتركيا و”إسرائيل” لها من اقتتال وتصادم داخلي بين أبنائها، ويكون المبرر “الشرعي” للثلاثي بتقسيمها!
كم هي سورية بحاجة وهي اليوم في مخاضها العسير، الى رجال أحرار، عروبيين، وطنيين، قوميين، وحدويين، كـ سلطان باشا الأطرش، ويوسف العظمة، وإبراهيم هنانو، وصالح العلي، وفارس الخوري…
د. عدنان منصور
لبنان\وزير الخارجية والمغتربين الأسبق