اخواتي واخواني،
من المؤلم جداً ان تتولى شاشات عربية رسمية وقنوات متأمركة طمس الصفحات المشرّفة من التاريخ العربي الحديث، وبخاصة ابطال العروبة وفلسطين ودعاة الوحدة وعلى رأسهم القائد المعلم جمال عبد الناصر.
تعلمون ان الامة واجهت هزيمة ونكسة كبرى في الخامس من حزيران عام 1967، اذ احتل العدو الصهيوني بدعم صريح من امريكا والغرب، الضفة الغربية التي كانت تحت وصاية الاردن والجولان والقنيطرة في سوريا ومنطقة سيناء في مصر، وباشر باحتلال متدرج لمزارع شبعا وتلال كفرشوبا اللبنانية.
إن لنا كتابات ومحاضرات كثيرة عن اسباب هذه الهزيمة، ومنها ان عبد الناصر استشعر العدوانية الاسرائيلية عام 1964 عندما باشر العدو بتحويل مجرى نهر الاردن الذي يلحق الضرر البالغ بسوريا والاردن ولبنان، فدعا لمؤتمر قمة عربي في القاهرة، ووقتها كانت الصراعات العربية على اشدها. لقد تجاوز عبد الناصر كل هذه المشاكل وصارح القيادات الرسمية العربية بان السرطان الصهيوني سيتمدد (قبل كارثة 67) والصراع مع الاسرائيليين صراع قومي يتطلب تجاوز كل الخلافات وحشد القوى العربية في مواجهة العدو. وتشكلت يومها قيادة مشتركة بقيادة البطل الشهيد عبد المنعم رياض، لكن دولاً عربية لم تلتزم بتواقيعها وعادت الصراعات وجمدت معاهدة الدفاع المشترك.
لقد اطلع عبد الناصر الملوك والرؤساء على خرائط اسرائيل التوسعية في البلاد العربية، وقال لهم ان الصراع ليس فقط فلسطينيا اسرائيليا او مصريا اسرائيليا، انما هو صراع عربي اسرائيلي بالمعنى الشامل، وهذا يتطلب قومية المعركة، وان ردع الصهاينة ليس مهمة قطر عربي بمفرده بل هو مهمة كل الأقطار، وبان التضامن العربي المستند اصلاً الى معاهدة الدفاع العربي المشترك يتطلب وحدة النضال لردع الصهاينة وحلفائهم.
لقد اهمل معظم القادة العرب هذا الواجب القومي الملح، فلما وقعت الهزيمة عام 67 كانت مصر وحدها ومعها سوريا في الميدان، وكان حلف الاطلسي قد توصل الى قرار استراتيجي بالتخلص نهائيا من القومية العربية ومن جمال عبد الناصر تحديداً واسقاطه بضربة قاضية، والقضاء التام على قوة مصر القومية والسياسية والاقتصادية لاعادة الاستعمار الى المنطقة، ومناصرة العدو الصهيوني على التمدد، واطلاق عصبيات قطرية وطائفية وعرقية على حساب الوحدات الوطنية والعروبة الجامعة.
كانت حركة التحرر القومي العربية بزعامة عبد الناصر قد دمرت الاستعمار البريطاني في العراق واليمن الجنوبي، وناصرت بقوة ثورة الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، واحبطت كل مشاريع الاحلاف الاميركية – الاطلسية وكان في قلبها نظام شاه ايران والحكم التركي. وانعقدت وحدة مصر وسوريا عام 1958 لتشكل كماشة عسكرية حول الكيان الصهيوني، بل ان عبد الناصر كان من مؤسسي حركة عدم الانحياز ومقاومة الاستعمار عالمياً، فناصر كل حركات التحرر الافريقية مادياً وعسكرياً، وبدأ ببناء قاعدة صناعية متطورة في مصر وفق خطط تنموية شاملة تستند الى اقتصاد انتاجي وعدل اجتماعي واسع النطاق.
لقد كان عبد الناصر من ابرز زعماء العالم الثالث الذين وضعوا كل الغرب بحالة دفاعية امام حركات التحرر، فتآكلت مصالحهم واطماعهم حتى صارت اغلبية الجمعية العامة للامم المتحدة من دول العالم الثالث. هذا كان المشهد في الخمسينيات ومطلع الستينيات.
لقد دخل الرعب فعلياً الى قلب الغرب الاطلسي، فكان الاتفاق الاستعماري مع الصهيونية العالمية بان هذا النهوض الثوري العالمي وفي قلبه مصر الناصرية، قد وضع الاطلسي الى حد كبير بحالة دفاع عن وجوده ومصالحه ودوره، فتم اتخاذ القرار الدولي باسقاط وتدمير النظام الناصري في مصر وتصفية الحركة القومية العربية، لتعود السيادة والقيادة للغرب كي يواصل استباحة حقوق الشعوب وتعزيز دور الكيان الصهيوني ليمنع التواصل الاستراتيجي الجغرافي بين العرب مشرقاً ومغرباً، للحيلولة دون الوحدة العربية بأي صفة كانت.
لقد وقعت الهزيمة في الخامس من حزيران (يونيو) 1967 فاذا بقوى الشعب العربي المناضل والملتزم بالحرية والتحرر والوحدة والعدالة، يحتل شوارع جميع البلدان العربية قاطبة، فحينما استمعت الجماهير العربية الى خطاب القائد عبد الناصر بالتنحي عن الحكم، معلناً تحمله لمسؤولية النكسة، وهو يعلم والشعب يعلم بان الحقائق والوقائع اوسع بكثير من مسؤوليته كما اتضح للراي العام العربي بعد ذلك.
لقد زلزل خطاب الرئيس اعماق الانسان العربي وفجر شعورا قوميا لم ولن تشهد الامة مثيلا له من قبل.
كانت المشاعر العربية تلقائية متدفقة ومتفجرة بوجه الأعداء. لقد اصيبت الجماهير بصدمة عقلية وقلبية معاً: “عبد الناصر يستقيل… مستحيل” ، وهي تدرك بوعي ثوري ان المخطط الاستعماري الصهيوني كله يسعى الى اسقاط عبد الناصر ومشروعه النهضوي العربي التحرري..
لقد شعر كل مواطن عربي شريف بنكبة، بكارثة، باستهداف. نامت الناس في شوارع المدن العربية يوم 9 حزيران بعد خطاب التنحي، كباراً وصغاراً اطفالاً رجالاً نساءً، تصرخ وهي تتطلع الى السماء تدعو الله تعالى ان يتراجع عبد الناصر عن الاستقالة.
اما في مصر فقط اندفعت الالاف شرقاً وغرباً، بالقطارات بالسيارات مشيا على الأقدام، باتجاه القاهرة فحوصر بيت عبد الناصر. “لن تتراجع”، قالتها الجماهير العربية باعلى الاصوات ليسمع ويعود القائد عن استقالته، وانتشر كالنار في الهشيم هتاف مدو على امتداد ساحات الامة: بالروح بالدم نفديك يا جمال.
ان هذا الطوفان الجماهيري العربي تمسكاً بقيادة عبد الناصر، مع العهد بمواصلة الكفاح لتحرير الأرض، اسقط اخطر مؤامرة على الامة العربية في ذلك الزمان، واسقط الشعب العربي الهدف المركزي للمخطط الصهيوني الاطلسي باسقاط عبد الناصر.
ان الحروب عادة تقاس بمدى تحقيق اهدافها السياسية وليس فقط العسكرية. نعم كسب الاعداء الحرب العسكرية في ذلك الحين، لكنهم فشلوا في تحقيق الانتصار السياسي والاهداف التي رسموها والنظريات التي سقطت عملياًُ .
لقد انتصرت الامة على اعدائها وقتذاك بعودة عبد الناصر بعد يومين من استقالته الى رئاسة الجمهورية مجددا، بل الى قيادة الامة العربية، وليعيد بناء القوات المسلحة ويخوض حرب الاستنزاف بعد المعركة فوراً، الى ان تحقق انتصار حرب تشرين 1973.
بعد الهزيمة قال موشي ديان وزير دفاع العدو ان مصر تحتاج لخمسين سنة حتى تستعيد بعض انفاسها، فأنكتمت انفاس دايان ومعه رئيسة الوزراء غولدا مائير التي بكت على الهاتف وهي تخاطب الرئيس نيكسون وتقول له خلال حرب تشرين ان اسرائيل تتعرض الى الزوال ..
دايان هذا انتظر على الهاتف مكالمة من عبد الناصر يعلن فيها قبوله لشروط اسرائيل للسلام الاستسلامي، لكن حرب الاستنزاف انطلقت كجواب على كلام دايان..
ان حركة 9 و 10 حزيران القومية الجماهيرية كانت الرد الرادع والسد المانع امام العدو وحلفائه.
وليعلم اخواننا الشباب العربي ان هتلر الذي عبأ الشعب الالماني في حروبه (العالمية الثانية) حينما اختفى بعد هزيمته، فان الالمان لم يذهبوا لبيته او قصره الجمهوري.
ان تشرشل رئيس وزراء بريطانيا صمد وقاتل الالمان الذين نكلوا بالبريطانيين طوال الحرب، كان بطلاً قومياً، وحينما انتهت الحرب بعد تدخل الولايات المتحدة لمناصرة فرنسا وبريطانيا، تشرشل هذا الذي اخترع شارة النصر حينما توقفت الحرب، اتخذ اجراءات كارثية ومنها زيادة اسعار الخبز، ويفاجأ القارئ حينما يعلم بان الشعب البريطاني اسقط تشرشل في الانتخابات. هذا هو الوفاء وفق القيم البريطانية، والاخلاق البريطانية والعادات والتقاليد الاطلسية.
ان يومي 9 و 10 حزيران 1967 كانا وسوف يظلان في كتب التاريخ الصادقة اعظم حركة شعبية قومية لم يحصل مثيلها في العالم.
ان موسوليني رئيس ايطاليا حينما انهزم في الحرب العالمية الثانية، فان الناس هاجموه حتى قتلوه باسلوب ذليل.
ان قيم الصدق والوفاء والامانة والاخلاص عميقة جداً في وجدان الشعب العربي.
ان العروبة جامعة وهي الرابطة الاولى لقوى الشعب العربي بعد الايمان الديني. وكل الحملات بعد هزيمة 67 الهائلة لتحميل عبد الناصر وزر الهزيمة، انكفأت امام الحقائق والوقائع.
كان عبد الناصر يدعو للتضامن العربي للمواجهة، لكن قيادات عربية رسمية انكفأت فوقعت الهزيمة لان السبب الاول كان غياب التضامن العربي، فالعدو متفوق بالسلاح وحلف الاطلسي معه، وهذا التحدي يحتاج الى قومية المعركة فلم يحدث هذا.
لقد سقطت العصبية القطرية المسؤولة الاولى عن الهزيمة،
وحينما تحقق التضامن العربي عام 1973 حققنا نجاحاً وانتصاراً على العدو.