الولايات المتحدة الاميركية التي نصبت نفسها لعقود، حاملة شعارات براقة، وٱترت باستمرار على ترويجها، وتسويقها لشعوب العالم، مدعية حرصها الدائم و”غيرتها” الشديدة على التمسك بالمبادئ والقيم، وعلى نشر مفاهيم الديمقراطية في العالم، وتعزيز اسس الحرية وحقوق الانسان، ٱخر من يحق لها الكلام بعد ما شاهده العالم من مهزلة “ديمقراطية” يوم أول امس جرت على ارضها.
لم تكن الولايات المتحدة يوما، بأجهزتها العميقة داخل الدولة ،الا نصيرة ومنقذة، وداعمة للأنظمة الدكتاتورية في العالم بأبشع صورها، وعدوة رئيسة لكل الانظمة الوطنية الديمقراطية الحرة التي جاءت بارادة شعوبها، وكان ذنبها الكبير الذي لا يغتفر انها ترفض سياسة التبعية، والإذلال والتسلط، والسيطرة الاميركية عليها.
لم تحترم الولايات المتحدة ارادة الشعوب الحرة، التي قررت عدم السير في الفلك الاميركي، مصممة الحفاظ على قرارها الحرالمستقل، حيث كانت واشنطن تلجأ الى معاقبة الأنظمة التي تعارض سياساتها، والإطاحة بها، من خلال تنفيذها للانقلابات، وتخطيط المؤامرات، وتحريك أجهزتها العسكرية والاستخبارية.
هكذا كان سلوك الولايات المتحدة على الدوام ضد الأنظمة الديمقراطية الوطنية في أميركا الوسطى واميركا الجنوبية، وفي افريقيا، وٱسيا والعالم العربي.
ليس من السهولة على العالم أن ينسى ما فعلته أجهزة المخابرات الاميركية CIA وقوات المارينز من مؤامرات متنقلة أطاحت بالأنظمة الديمقراطية لتحل مكانها انظمة ديكتاتورية تكون في خدمة الولايات المتحدة وأهدافها ومصالحها الإقتصادية والأمنية والاستراتيجية.
هكذا كان الحال مع سلفادور اللندي في تشيلي، مروراً بكوبا الثورة، ونيكاراغوا، والمكسيك، وبانما، وغانا نكروما، وإيران مصدّق، واندونيسيا سوكارنو، وسيريلانكا باندرانيكا، وغيرها الكثير من الأنظمة الوطنية الديمقراطية التي أطاحت بها الولايات المتحدة خلال عقود سابقة حيث اللائحة تطول.
اليوم تطفو الديمقراطية الاميركية المزيفة على السطح. فالمنظومة العميقة داخل الدولة الاميركية، تفعل فعلها، وتثبت للملأ انها ضد الديمقراطية وارادة الشعب الاميركي الذي جاء ببايدن رئيسا للولايات المتحدة. هذه المنظومة التي تحرّم الديمقراطية الحقيقية على الشعوب الحرة التي تختار زعماءها بارادتها، والتي تعمل في ما بعد على تشويه العملية الديمقراطية والتشكيك فيها، ومن ثم التحضير للقيام بالإطاحة بها، تطبق اليوم سلوكها المشين حتى في الداخل الاميركي رافضة قرار الشعب، معتبرة ان الانتخابات الرئاسية، يشوبها التزوير، والفساد والفوضى والتٱمر، فقامت باقتحام الديمقراطية في عقر دارها، وهي التي جاءت برئيسها قبل اربع سنوات، والمنهزم اليوم عبر صناديق الاقتراع.
لقد انجبت الولايات المتحدة، من جملة من انجبتهم، غوايدو في فنزويلا، وبينوشيه في تشيلي، وباتيستا في كوبا، وعائلة تروخيليو في جمهوريات الموز، وماركوس في الفلبين، والشاه محمد رضا بهلوي في ايران، وسوهارتو في اندونيسيا، وحسني الزعيم في سوريا، بالإضافة الى عشرات الدمى في العالم العربي وبلدان اخرى.
ها هو “غوايدو” أميركا يطل برأسه في الداخل الاميركي هذه المرة، عبر قرصان الديمقراطية المزيفة ترامب، لينقض على النتيجة الرئاسية كما تنقض أجهزة الولايات المتحدة على نتائج الانتخابات التي تقول فيها الشعوب كلمتها الحقة، وتعبر عن ارادتها الحرة، التي تتعارض مع سياسات الغطرسة الاميركية، وتدخلاتها ونفوذها وهيمنتها!! فالدولة التي يقول رئيسها، وهو على سدة الرئاسة، ان انتخابات بلده مزيفة ومزورة، غير جديرة ان تكون النموذج الذي يحتذى به من قبل الشعوب الحرة، وبالتالي ٱخر من يحق لها، بعد اليوم، ان تراقب وتتابع أي عملية انتخابية تجري في دولة من دول العالم، أو تحكم، أو تعطي شهادة “حسن سلوك” تقيّم من خلالها مستوى شفافية الديمقراطية للدول التي ترفض بالشكل والأساس سياسة التسلط والتهديد والابتزاز الاميركي.
يوم السادس من كانون الثاني لعام 2021, لن يكون الا وصمة سوداء على جبين الديمقراطية الاميركية التي ترنحت أمام المشهد البشع عندما شاهدت شعوب العالم كله، جحافل “الجمهوريين” وهي تقتحم عقر دار الديمقراطية وتعبث بها، في مشهد قل أن نرى نظيره في العالم. فلو كان الذي حصل في الولايات المتحدة، جرى مثله في دولة من دول العالم لا ترضى عن سياستها وتوجهاتها واشنطن، لثارت ثائرتها وأقامت الدنيا واقعدتها، لتظهر للعالم بمظهر الغيور والحامي للديمقراطية وحرية الشعوب وحقوقها.
ما حصل في الولايات المتحدة أثلج، ولا شك، قلوب العديد من الشعوب الحرة المقهورة التي ذاقت الكثير من الظلم والمصائب والويلات والفوضى والحروب والدمار التي حلت بها، نتيجة السياسات التعسفية المستبدة التي مارستها الادارة الاميركية بحقها، والتي كانت تبرر افعالها وتدخلاتها في شؤونها، بسبب “حرصها ” البالغ على احترام الديمقراطية ،وحقوق الانسان وتوفير الحرية لها.
لقد كشفت بوضوح منظومة الدولة العميقة التي ارادت أن تطيح بنتائج الانتخابات الرئاسية وتعيدها الى نقطة الصفر، الوجه المزيف للحياة السياسية الاميركية، التي تشوهت وغابت عنها صدقيتها، واوجدت شرخا كبيرا داخل المجتمع الاميركي، حيث لا أحد يستطيع منذ الٱن، معرفة متى وكيف سيلتئم الجرح العميق، بعد ان تزعزعت الثقة “بالديمقراطية” الاميركية، من قبل الداخل قبل الخارج.
(*) الدكتور عدنان منصور
وزير الخارجية والمغتربين الأسبق في لبنان