لم يكن مفاجأة مؤتمر السلام الذي عقد في أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق يوم الجمعة في 24 أيلول الماضي، وحمل اسم «مؤتمر السلام والاسترداد».
المؤتمر الذي ترأسه اليهودي الأميركي من أصل عراقي جوزيف رود، ضمّ في صفوفه أطيافاً عربية من الإقليم وخارجه، منها المعروف ومنها المجهول.
المؤتمر الذي حمل في ظاهره دعوة للحوار بين الأديان، والسلام، ونبذ التطرف والإرهاب، كان يهدف في حقيقة جوهره، الترويج للتطبيع مع الكيان الصهيوني. وهذا ما ظهر جلياً من خلال عرض علم «إسرائيل» من بين صوَر عدة على الشاشة الرئيسة داخل قاعة المؤتمر. وأبعد من كلّ ذلك، فحوى مضمون البيان الصادر عن المؤتمر الذي تلته سحر الطائي الموظفة في وزارة الثقافة العراقية جاء فيه: «نطالب بانضمامنا إلى اتفاقيات إبراهيم (أبراهام)، وكما نصت الاتفاقيات (المقصود هنا، اتفاقيات التطبيع التي وقعت بين الدول العربية الأربع… الإمارات والسودان والبحرين والمغرب، ودولة الاحتلال الصهيونية)، على إقامة علاقات دبلوماسية بين الأطراف الموقعة و»إسرائيل». ونحن أيضاً نطالب بعلاقات طبيعية مع «إسرائيل»، وبسياسة جديدة تقوم على العلاقات المدنية مع شعبها بغية التطوّر والازدهار (!!!)».
هذا المؤتمر الذي نظمه مركز «اتصالات السلام» ومقرّه نيويورك، وموّله بالكامل، لم يكن ليتمّ عقده في أربيل لو لم يكن يحظى بدعم الزعامة الكردية، وسلطات الإقليم، وتوفير الغطاء اللازم له، سياسياً، وإعلامياً، وأمنياً، ولوجستياً !
ليست العلاقات الكردية ـ «الإسرائيلية» وليدة الساعة، حيث وجدنا كيف ترجمت هذه العلاقة داخل إقليم كردستان عندما أجري فيه الاستفتاء على الاستقلال عن العراق، وكيف ظهرت بعد نتيجة الاستفتاء أعلام الكيان المحتلّ علانية مع علم إقليم كردستان العراق، وذلك أثناء الاحتفالات الشعبية، والابتهاج بنتيجة الاستفتاء، والتأكيد على العلاقات القوية مع «إسرائيل».
من الأهمية بمكان تسليط الضوء على مدى ارتباط القيادة السياسة الكردية بـ «إسرائيل»، ومتانة العلاقات معها منذ تأسيس كيانها وحتى اليوم. وهذه الحقيقة لا يخفيها أحد في كردستان العراق، حتى مسعود البرزاني وجلال الطالباني!
ها هو مسعود البرزاني يكشف النقاب عن العلاقات «الإسرائيلية» ـ الكردية في كتابه: «الحركة التحررية الكردية»: 1960 ـ 1975الجزء الثالث»، الصادر في أربيل عام 2002.
يقول فيه مسعود البرزاني، إنه عندما قام الأكراد بثورتهم ضدّ السلطة المركزية في بغداد، أدركت «إسرائيل» أهمية تحرّكها الاستراتيجي في هذه المنطقة، حيث بادرت إلى الاتصال بالقيادة الكردية، عارضة عليها المساعدة! لقد رأى الزعيم الكردي مصطفى البرزاني دوافع «إسرائيل» في مساعدة الكرد، مصلحة في إشغال الجيش العراقي أو معظمه، وإبقائه مستمراً في قتاله مع الكرد، للحيلولة دون إرساله إلى خطوط المواجهة في حال الحرب بين الدول العربية و»إسرائيل».
وحول طبيعة المساعدات العسكرية «الإسرائيلية» للكرد، يقول عنها البرزاني بوضوح إنه «في شهر أيار 1965، وصل إلى كردستان دافيد كمحي الذي تقلد مناصب قيادية في الموساد، جهاز الاستخبارات «الإسرائيلية»، شغل في ما بعد منصب أمين عام وزارة الخارجية «الإسرائيلية»، ممثلاً الحكومة «الإسرائيلية»، وبدأ ينسّق مع الثورة، فبدأت تصل في ما بعد مساعدات عسكرية وفنية، لكن بشكل محدود. كان بوسعهم أن يزيدوا منها كثيراً فلم يفعلوا، وتقصّدوا أن تبقى في نطاق ضيّق بغية إدامة القتال في كردستان من دون حسم، وليبقى الجيش العراقي مسمّراً في جبال كردستان، بعيداً عن ساحات القتال في فلسطين. كان قصدهم هو عين قصد شاه إيران، إذ ما كان ليسمح من جهته بمضاعفة المساعدة حتى لو أراد «الإسرائيليون» زيادتها. لكن الواقع هو أنّ «إسرائيل» وشاه إيران كانا متفقين على سياسة واحدة إزاء الثورة، وهي استمرار القتال فحسب، من دون الخروج بنتيجة حاسمة لأيّ طرف، نصراً كان أم هزيمة». يعترف مسعود البرزاني صراحة، أنه جاء العديد من الخبراء العسكريين «الإسرائيليين» إلى المناطق الكردية للتخطيط للمعارك، وقيادة عملياتها العسكرية، إذ وفر الخبراء العسكريون «الإسرائيليون» مقومات النصر لمعارك عديدة خاضها الكرد ضدّ الجيش العراقي وأبرزها معركة «هندرين». وفي هذا الصدد، ذكر الكاتب «الإسرائيلي» شلومو نكديمون في كتابه «الموساد في العراق ودول الجوار»: «أنّ المعارك الفاصلة التي خاضها الكرد جرت بتخطيط وقيادة ضباط «إسرائيليين»! وإنْ أراد مسعود البرزاني في ما بعد أن يدحض مزاعم نكديمون، ليجعل الانتصار في «هندرين» من إنجازات المقاتلين الكرد وحدهم.
إنّ التنسيق بين الشاه و»إسرائيل» ظلّ مستمراً في مساعدة الكرد. فبعد حرب حزيران 1967، ازدادت المساعدات المدنية، إضافة إلى المعدات والتجهيزات العسكرية «الإسرائيلية» للمقاتلين الكرد بشكل كبير وملحوظ، على إثر زيارة الزعيم الكردي الملا مصطفى البرزاني (والد مسعود)، زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى «إسرائيل» في نيسان 1968، لتستمرّ في ما بعد المساعدات العسكرية «الإسرائيلية» لكردستان، لا سيما مع تجدّد المعارك عام 1972 بين الجيش العراقي والمقاتلين الكرد بشكل كبير وضار.
بعد تنسيق تمّ بين رئيسة وزراء «إسرائيل» غولدا مائير، وشاه إيران، أثناء زيارتها لطهران. تمّ بالفعل تحويل كميات كبيرة من الأسلحة السوفياتية التي سقطت بيد «الإسرائيليين»، أثناء حرب حزيران، إلى المقاتلين الكرد، حيث أرسلت «إسرائيل» بالإضافة إلى الأسلحة السوفياتية، كميات كبيرة من هواوين المدافع المصنعة من قبلها، التي وجدت فيها تفوّقاً نوعياً.
مسيرة العلاقات «الإسرائيلية»- الكردية لم تتوقف، حتى بعد توقف الشاه عن تقديم المساعدات للكرد نتيجة اتفاق الجزائر عام 1975 بين إيران والعراق، والذي بموجبه توقف الدعم العسكري الإيراني للكرد.
بعد قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتحديد هويتها، ورفضها لوجود الكيان الصهيوني في فلسطين، وقطع العلاقات الكاملة معه، كان لا بد من «إسرائيل»، من تعزيز العلاقات مع كردستان العراق على مختلف المستويات، بغية أن تكون حاضرة في قلب إقليم كردستان سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وعلى مقربة من الحدود الإيرانية، عسكرياً وأمنياً ولوجستياً واستخبارياً، تدرّب وتخطط، توجه عملاءها ومرتزقتها وأعداء النظام الإيراني، تدفعهم لعبور الحدود إلى داخل الاراضي الإيرانية، للقيام بعمليات التجسس على الأمن القومي للبلاد، وزعزعة الاستقرار، وتنفيذ عمليات إرهابية ضدّ القوى النظامية العسكرية، والمؤسسات المدنية، إضافة إلى إنشاء بؤر معسكرات عسكرية إرهابية على مقربة من الحدود الإيرانية، تديرها عناصر استخبارية ولوجستية «إسرائيلية» تعمل بحرية وبغضّ النظر من قبل سلطات إقليم كردستان، حيث تصاعدت في الآونة الأخيرة العمليات العسكرية التي تشنها العناصر الإرهابية المتسللة إلى داخل إيران من آن إلى آخر.
تواجد «إسرائيل» القوي في كردستان، يرمي إلى تحقيق عدة أهداف أبرزها:
1 ـ تعزيز النفوذ «الإسرائيلي» داخل الإقليم، والتركيز على «الحق اليهودي» فيه من خلال اليهود الكرد، والأماكن التي تزعم «إسرائيل»، على أنها أماكن دينية يهودية، ما يجعلها تدّعي بأحقية اليهود في العراق وفي المنطقة الممتدة من النيل إلى الفرات.
2 ـ تعمل «إسرائيل» بكلّ الوسائل على تقسيم العراق، ومنع قيام سلطة مركزية قوية في بغداد، وهي تتطلع منذ أوائل الثمانينيات إلى عراق مقسم عرقياً وطائفياً وقومياً، ليصبح غير قادر في ما بعد على القيام بمسؤولياته الوطنية والقومية، وأن يكون في خدمة أمته، لمواجهة قوى الهيمنة والعدوان.
مخطط «إسرائيل» تجاه العراق، يستدعي الإشارة إلى استراتيجية «إسرائيل» خلال الثمانينيات من القرن الماضي، والتي وضعها مستشار رئيس وزراء «إسرائيل» آرييل شارون أوديد يونون ODID YONON، والتي تعبّر عن توجهات «إسرائيل» المستقبلية. والتي نشرت في مجلة كيفونيم (توجهات) أو (Orientation) عدد شباط 1982، تناولت في ما تناولته التركيز والتسديد على العراق، معتبرة «أنّ العراق البلد الغني بالنفط، وفريسة الخلافات الداخلية الخطيرة، أرضاً مثالية لتحرك «إسرائيل». إنّ تفكيك هذا البلد يهمّنا أكثر من تفكيك سورية، لأنّ النظام العراقي هو الذي يهدّد أمن «إسرائيل» بالدرجة الأولى على المدى القصير. وسوف تفكك حرب بين العراق وسورية، أو بين العراق وإيران، الدولة العراقية حتى قبل تمكنها من تحضير حرب ضدنا… كلّ خلاف داخل العالم العربي يصبّ في مصلحتنا على المدى القصير، وسيسهم في تقريب الموعد الذي سينقسم فيه العراق بحسب طوائفه الدينية. ويمكن لأن يتمّ توزيع المقاطعات في العراق بحسب الأعراق والأديان بنفس الطريقة التي كانت موجودة في سورية أثناء السيطرة العثمانية. وستتشكل ثلاث دول أو أكثر حول المدن الرئيسة الثلاث: البصرة وبغداد والموصل، وستنفصل المدن الشيعية الجنوبية عن السنة والأكراد في الشمال!
3 ـ «إسرائيل» من خلال تواجدها في إقليم كردستان،
وبالذات في عاصمة الإقليم أربيل، الواقعة على مسافة غير بعيدة عن الحدود الإيرانية، تعمد من دون توقف على إثارة النعرات القومية، وتحريك العناصر المرتزقة والعميلة، المناوئة للنظام الإسلامي الإيراني، وتوفير الدعم الكامل لها، بغية نشرها وتوزيعها على مساحة الجغرافيا الإيرانية، وتنفيذ العمليات الإرهابية في المواقع التي تحددها لها. وما اغتيالات العلماء الإيرانيين، وتفجير منشآت مدنية وعسكرية وعلمية إلا ليصبّ في هذا الإطار.
4 ـ «إسرائيل» تدفع بإقليم كردستان إلى الانفصال الكامل عن بغداد، وتطبيع علاقاتها مع إقليم كردستان بشكل رسمي علني وليس بشكل عملي مبطن، كما هي الحال اليوم. فالتطبيع العلني والرسمي مع أربيل كردستان، سينسحب ـ بنظرها ـ على التطبيع الكامل مع العراق كله. وهذا ما أثار حفيظة بغداد، ورفضها القاطع لمؤتمر أربيل، ودفعها إلى اتخاذ الإجراءات القانونية والدستورية ضدّ المشاركين في المؤتمر، بعد أن تبيّن لبغداد، أنه يحمل شكلاً عنوان حوار الأديان والسلام، ويخفي في داخله هدفاً للتطبيع مع الكيان المحتلّ. وهذا ما تعتبره بغداد على أنه يشكل انتهاكاً صارخاً للدستور، وخطراً على انتماء وهوية وموقف العراق حيال وحدة أرضه، والتزامه بقضايا أمته وحقوقها المشروعة.
5 ـ تجد إيران نفسها معنية مباشرة بما يجري قرب حدودها مع إقليم كردستان، وما تقوم به الاستخبارات «الإسرائيلية» من تخطيط وتنسيق شامل مع الخلايا الإرهابية التي تتواجد في معسكرات عديدة، تستهدف الأمن القومي الإيراني. ما دفع بطهران إلى التعامل مع هذه المعسكرات وعناصرها المسلحة بكل قوة وحزم من دون هوادة. وهي حذرت على لسان كبار مسؤوليها من أن أي مساس باستقرارها أو بأمنها القومي، سيلقى رداً قاسياً مدمّراً طالما استمرت هذه العناصر المسلحة باستخدام الأراضي العراقية منطلقاً لأعمالها العسكرية الإرهابية ضدّ إيران.
طهران تدرك جيداً أبعاد ما تحيكه «إسرائيل» ضدها وضد العراق، وهي تعلم جيداً ما تفعله أجهزتها العسكرية والاستخبارية على حدودها في أذربيجان، وفي محافظة سيستان وبلوشستان، وفي غرب إيران وجنوبه الغربي، حيث بصمات الأصابع الإسرائيلية واضحة على العمليات الإرهابية التي تنفذها العناصر العميلة المرتبطة بها.
6 ـ إنّ التقارب الإيراني- العراقي، وتعزيز العلاقات بين البلدين، أمر حيوي يصبّ في صالح البلدين، ويثير قلق ومخاوف الكيان «الإسرائيلي»، والعديد من دول الجوار في المنطقة المشرقية. لذلك من البديهي أن تصبّ الجهود الإسرائيلية لتعطيل هذا التقارب، وأبعاده عن البلدين، باستخدام الوسائل كافة، التي تمنع العراق من التقاط أنفاسه، وتعزيز وحدة شعبه واستقراره، والانطلاق في مسيرته التنموية. كذلك الحال بالنسبة لإيران، إذ لا تنفك «إسرائيل» عن حياكة المؤامرات، والقيام بالأعمال العدوانية ضدها، التي تعتبرها «إسرائيل» على أنها المهدد الأول لوجودها وبقائها.
إنه صراع مستمر مع دولة الاحتلال، التي تتخذ من كردستان منصة استراتيجية تهدّد وحدة وهوية العراق القومية من جهة، ومن جهة أخرى منطلقاً عدوانياً ضدّ أهداف إيرانية، يُراد منه إحداث البلبلة، والترويج لحرب نفسية في الداخل، ولمواقف وآراء متطرفة يراد منها تشويه صورة النظام والعمل على تغييره.
إنّ التعاون البنّاء والتنسيق المبرمج بين طهران وبغداد، وحده يحصّن البلدين معاً، في وجه مشاريع وممارسات «إسرائيل» ومؤامراتها، وسياساتها وأدواتها في المنطقة.
د. عدنان منصور
لبنان/ وزير الخارجية والمغتربين الأسبق