هو “جوكر” الحياة السياسية اللبنانية منذ أن بدأ يتعاطاها بالوراثة.
فالجوكر على طاولة اللعب، يعرف دوره، مكانته، وضعه وأهميته. هو يعلم جيداً أنه في مكان ينجذب اليه كلّ لاعب أو مقامر، أو مغامر يسيل لعابه على الأرباح والمنافع والمكاسب.
وما دام الجوكر يعرف أهميته عند اللاعبين، ودوره على الملعب السياسي، فهو راضٍ بالتنقل من يد الى أخرى، ومن مكان الى آخر، وإنْ أدّى الأمر به الى اتخاذ مواقف متقلبة، عشوائية، متخبّطة، متذبذبة، بهلوانية، بعيدة عن مصالح الوطن الحقيقية، من دون ضوابط أو حدود، غالباً ما تكون في خدمة مصالحه الشخصية، وعلى حساب المبادئ والقيم والأهداف النبيلة.
المكيافيلية تبدو متأصّلة في نفسه، تتغلغل في عقله وفؤاده، وتحرك تصرفاته وأهواءه في كلّ الاتجاهات. التموضع الانتهازي عنده بمثابة دستور، وقاعدة، وامتياز له. هو ضرورة من ضرورات حياته السياسية والشخصية، ومواقفه المتذبذبة، وعمله “الدؤوب” للظفر بالمراكز، والمناصب، والمنافع والمكرمات.
هو الجوكر الذي لا يعنيه في المقام الأوّل، سوى وجوده، ولا يكترث إلا لنفسه، ومن بعده تأتي ـ إنْ أتت ـ مصالح الناس وهموم الوطن.
هو، ومن أجل الحفاظ على امتيازاته الخاصة، وموقعه الدائم، ونفوذه، وحضوره، وضع لنفسه نهجاً وقانوناً يسير عليه، ولا يحيد عنه مطلقاً، حتى أصبح جزءاً لا يتجزأ من تركيبته الشخصية والعملية.
يميل مع كلّ ريح… لا صديق دائم له. أصدقاؤه مؤقتون وهم يعرفون ذلك… ولا أعداء دائمين له. إذ هو بحاجة إليهم عند الضرورة، ولا يتأسّف إنْ تحالف معهم، رغم أنه من الصعب أن يدخل الى قلوب الأصدقاء والأعداء ويحظى بثقتهم…
هو المتوتر، المتجهّم دائماً، الحذر، العبوس، القلق، الذي لا يعرف وجهه الابتسامة أو الضحك، وإنْ شاهد مسرحية لعملاق الكوميديا عادل إمام.
لطالما أنه الجوكر، فهو لا بدّ منه. والمقامرون بحاجة إليه ولو مؤقتاً، إلى حين استبداله بجوكر آخر. يطعن “حليفه” و”صديقه” حين تدعو الحاجة، ويتخلى عنه عندما يراه ضعيفاً وفي مأزق حرج، وبحاجة الى من يقف إلى جانبه. يندفع بكلّ عزيمة باتجاه عدو أو خصم له، عندما يراه قوياً متوثباً، حيث يعرف بحدسه “المكيافيلي”، أنه الوقت المناسب قبل فوات الأوان، للحاق بقطاره والصعود فيه. وإذا ما انهزم عدوه وتعثر، تراه يقفز من القطار بسرعة قبل أن يتوقف، وقبل أن يفوت الأوان.
متقلب، متهوّر، مندفع، متحمّس دون حساب، قلبه وراء لسانه يرى نفسه عظيم قومه، وكلّ واحد منهم، كشعرة في مفرقه، يرى فيه البعض وهماً، او تزلفاً، او مراوغة، او نفاقاً، او غباء، أو جهلاً، أن ذبذبات حدسه، ورصده للأحداث والتطوّرات في المنطقة والعالم، قوية وبعيدة المدى، وأنه واسع النظر، مراقب جيد ومتابع دقيق لتطوّرات الأمور في الداخل والخارج.
هو الجوكر الذي لا يتورّع أن يقول إني قبضت، وأخطأت، وافتعلت، وأفسدت، واندفعت، واستفزيت، وشاركت في كلّ صغيرة وكبيرة جاءت على حساب الوطن والمواطن، طالما أنه يعلم جيداً وبشكل قاطع، أنه فوق الدستور، والقانون، والقضاء، والمؤسسات. وأنه في بلد الخطوط الحمر، لا مساءلة فيه، ولا حساب ولا قضاء يطاله أو يحاكمه، وهو المحصّن بالحاشية التي تحيط به، وتؤلّهه في كلّ ما يقوم به، وتهلل وتصفق له في كلّ ما ينادي به ويفعله، وتعتبره ملهمها وقدرها، ونوراً قذفه الله في صدرها!
هو الجوكر، الذي يظنّ نفسه لقمان الحكيم في وطنه، وسيف الدستور والقانون، والعدالة والمدافع عن المظلومين والمقهورين، والمعذبين في الأرض. يهاجم الفساد وهو من أبرز وجوهه. ينادي بالإصلاح الذي لم يعرف يوماً طريقاً إليه، ولم يكن قط على جدول أعماله إلا بالتنظير والمزايدات. يهاجم خارقي الدستور، والعابثين بالنظام والقانون، وهو الذي أدمن على تجاوزه وخرقه علناً دون حسيب أو رقيب أو أسف…
يبدي حرصه الشديد على الحياة السياسية، والحريات والأصول الديمقراطية، وهو الراعي الأوحد المستبدّ، المحتكر في “مقاطعته”، ومزرعته. يستأثر بالزعامة ويرفض كلّ معارض له، ولا يتردّد مطلقاً عن الاقتصاص منه، إذا تجاوزه او تمرّد عليه، او انتقده، ليكون عبرة ودرساً لكلّ معارض له، ولكلّ من تسوّل له نفسه أن يرفع رأسه في وجهه.
هو الجوكر الذي يروّجون له، على أنه يمسك بيده وهماً، ترموماتر سياسات الدول، لا سيما ذات الصلة بمنطقتنا المشرقية. فإذا ما ارتفع منسوب واحدة منها، تجده على الفور يميل اليها. وإذا ما انخفض منسوب زخمها واندفاعها، يتحول فجأة عنها، ليلجأ الى غيرها. هو المتذبذب، المتقلب، المتنقل كعصفور الدوري يتنقل من غصن الى غصن. أو البهلوان البارع في سيرك الأعياد، أو اللاعب على حبال أشجار الأدغال الأفريقية!
هو الجوكر…
مع إيران، ثم مع خصومها. هو مع “الرفاق” في موسكو، ضدّ سياسات واشنطن ونهجها، وبعد ذلك هو صديق حميم لبلاد العمّ سام، متمنياً العيش فيها، ليذكرنا بالشاه أحمد، آخر ملوك القاجار الفاسدين في إيران، الذي تمنى في آخر أيامه أن يكون مزارعاً في سويسرا!
هو مع سورية، قلباً وقالباً، ثم ضدّ رئيسها ونظامها. وبعد ذلك، “بحسّه الدقيق” يعيد تصويب بوصلته مجدّداً باتجاهها، وهو من الآن معها ولها، لكن سرعان ما تنحرف به بوصلته الميكيافيلية على الفور، تأخذه بعيداً، ليرتدّ عنها مرة ثانية وثالثة ورابعة، وبعد ذلك يرمي خاصرتها بما لديه في جعبته من سهام مسمومة.
هو مع المقاومة لوقت، ثم معارض وعدو لها في كلّ الأوقات. وعندما يكون “مزنوقاً” في مكان ما، يجد نفسه مطوّقاً في الزاوية، فيغازلها بخبث وحذر، حتى إذا ما جاءت الفرصة المناسبة له ارتدّ عنها، وانقضّ عليها وكأنّ شيئاً لم يكن…
هو عدو “إسرائيل” لحين من الزمن، حتى إذا ما وصل قطارها الى بيروت، رأى نفسه أنه الأوْلى بالصعود فيه. وما أن يعود القطار مدحوراً مهزوماً من لبنان، تجده ينزل منه، ليركب قطاراً آخر.
لا يهمّ الجوكر من يخسر او يربح، من ينتصر او ينهزم، لطالما أنه سيكون على طاولة اللعب حاجة ماسة لجميع اللاعبين.
هو جوكر ثابت على مبدأ التقلب، وبحكم موقعه ومعرفته، وضلوعه، وخبرته، يعرف أكثر من غيره، من أين تؤكل الكتف بشهية وجشع ونهم لا حدود له !
هو المتقلب في المواقف، والتحالفات والصداقات، والخصومات، والأصدقاء، والأعداء. يكره حتى نفسه إنْ رآها ثابتة على العهد والمبدأ والموقف.
هو الجوكر الإقطاعي الثوري الظريف، المقاول السياسي والمالي البارع، والمشارك في كلّ صفقة ومزاد، صغيراً كان أم كبيراً. ابن سلالة التوريث السياسي، الوارث والموروث، هو الكونت في دوقيته ومحميته، لا صوت يعلو فوق صوته، ولا قرار فوق قراره، وإنْ ارتفعت أحياناً في وجهه، أصوات “الدراويش” في غفلة من الزمن. حساباته غير حساباتهم، ومصالحه غير مصالحهم، ونياته غير نياتهم، وطموحه غير طموحاتهم، أوَليس هو الجوكر الذي يحتاج اليه اللاعبون والمقامرون، والمغامرون، والانتهازيون، والاستزلاميون، والوصوليون في كلّ صغيرة وكبيرة؟!
إنه الجوكر الذي له خياراته وحساباته الخاصة به، وإنْ اضطر للتخلي عن كلّ شيء، عن العقائد والشعارات والمبادئ والاعتبارات، عن القريب والغريب، العدو والصديق، عن الرفيق والشقيق، والوطن والشهيد، حتى يبقى متربعاً على طاولة اللعب، وإنْ أدّى به الأمر للمقامرة بالشعب والأتباع، والخلفاء على السواء، ما دام لسان حاله يرّدد في داخله دون أيّ تحفظ: أن أكون أو لا أكون، ويجب أن أكون !
الجوكر بكلّ تأكيد يُصرّ على ان يكون حاضراً في أيّ وقت، موجوداً في كلّ مكان وزمان، وهو يتمتم في داخله ويقول: يجب أن أكون، ولا يهمّني مع مَن، وكيف، ومتى وأين، ما دمت المهراجا وبجانبي الأزلام والأتباع، وليبقَ شعاري على الدوام: ليذهب الجميع الى الجحيم، ومن بعدي الطوفان…
المهمّ أن أبقى المهراجا في مقاطعتي، أصول وأجول، والأمر لي، والطاعة لي، والرضوخ لي، وأنا أؤدي بامتياز دور الجوكر !
د. عدنان منصور
*وزير الخارجيّة والمغتربين الأسبق