إنتهجت الولايات المتحدة الأمريكية إستراتيجية زيادة التحكم والتفرد في النظام العالمي عن طريق منع بروز دول عظمى منافسة لها خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي أواخر القرن الماضي حيث استغلت هذا الانهيار لتوسيع دائرة نفوذها في مناطق مختلفة من العالم وتنطوي هذه الإستراتيجية على ضرورة استمرارية زعامتها وقيادتها وهيمنتها الدولية باعتبارها، على حد زعمها، شرطا ضروريا للاستقرار الشامل في العالم حيث أن عدم الاستقرار الدولي يشكل خطرا يهدد مصالحها الإستراتيجية بعامة والاقتصادية منها بخاصة.
بمعنى أن هذه الإستراتيجية الأمريكية الهادفة إلى السيطرة الجيوسياسية تقوم على اختلال توازن القوى لتحقيق مصالحها وبخاصة في أوروبا وشرق أسيا والخليج العربي والمنطقة المسماة بالشرق الأوسط الكبير.
أي أن مبدأ توازن القوى الذي اعتمدته الولايات المتحدة يعتمد على نفوذها خارج حدودها وسيطرتها على النظام السياسي والاقتصادي الدوليين وقد شكلت هذه السياسة والأطماع الأمريكية في ثروات العالم والهيمنة على الاقتصاد العالمي اخطارا كبيرة ألقت بظلالها وأضرارها وكلفها الباهظة على العديد من دول العالم وبخاصة تلك الدول التي تعرضت إلى الغزو العسكري الأمريكي والتي جعلت منها أمريكا قواعد عسكرية لقواتها للحفاظ على مصالحها عبر منع ظهور زعامة أوروبية أو روسية بذريعة الدفاع عن وحدة أراضيها، وهذا جعل الإدارات الأمريكية المتعاقبة تفعل كل ما بوسعها لإدامة تفوقها وتوسيع نفوذها الجيوسياسي دون النظر إلى أن السياسة الدولية متحركة والظروف والأوضاع في العالم قابلة للتغيير وهذا ما حصل، ويحصل، فعليا بعد استعادة روسيا الاتحادية لدور الاتحاد السوفياتي الذي طالما نافس الولايات المتحدة وخاض معها حربا باردة استمرت من أربعينات القرن الماضي وحتى الأعوام الأولى من تسعينات القرن. وذلك لأسباب عسكرية واقتصادية وأمنية تتعلق بمناطق الصراع، شرق أسيا وشرق أوروبا ومنطقة “الشرق الأوسط الكبير” نظرا لأهمية هذه المناطق الجغرافية والاقتصادية.
إستعادت روسيا الاتحادية دور الاتحاد السوفياتي بعد أن تحسنت أوضاعها الاقتصادية والعسكرية وبعد أن تولى قيادة روسيا الثنائي الطموح بوتين- ميدفيدف، حيث بدأت هذه القيادة العمل على استعادة النفوذ لمواجهة الأطماع الأمريكية وأخطارها حيث تواصلت مع الصين والهند وإيران للحد من هذه الأطماع والهيمنة والنفوذ الأمريكي الذي اقترب فعليا من حدودها وتجسد ذلك في نشر الدروع الصاروخية قرب هذه الحدود في تشيكيا وبولندا وأخيرا في تركيا واكرانيا، مما جعل روسيا الاتحادية تعتمد في المواجهة تطوير قوتها العسكرية وبخاصة تلك التي ورثتها من الاتحاد السوفياتي وبخاصة النووية منها وهذا جعلها تصبح قوة عظمى جديدة تكسر أحادية القطبية وتعيد توازن القوى في الساحة الدولية رغم محاولات الولايات المتحدة العمل على حصار روسيا عبر بعض جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق وبخاصة اوكرانيا بعد انقلاب عام 1914م والسيطرة على هذه الجمهوريات اقتصاديا وعسكريا حيث أقامت على أراضي هذه الجمهوريات قواعد عسكرية وكذلك عملت على ضم العديد منها إلى مجموعة دول الاتحاد الأوروبي الحليف للولايات المتحدة حيث تشكل مع دول هذا الاتحاد حلفا عسكريا “حلف الناتو” الذي هو موجه بالأساس إلى القوة الروسية وهذا جعل الرئيس الروسي بوتين يوجه انتقادات شديدة إلى سياسة الهيمنة الأمريكية على العالم معتبرا هذه السياسة تشكل خطرا كبيرا ليس على امن روسيا فحسب بل على امن العالم واستقراره.
بمعنى أن القيادة الروسية ترفض الهيمنة وتعمل على إنهاء دور القطب الواحد والنظام العالمي الجديد الذي أقامته الولايات المتحدة الأمريكية واتبع كلامه بالأفعال حيث عمل على تطوير القدرات العسكرية لروسيا الاتحادية وبخاصة المتقدمة منها كالصواريخ العابرة للقارات وتلك المضادة للصواريخ لمواجهة أي خطر كما أقدمت روسيا على تسليح أسطول دول البلطيق كإجراء دفاعي وخلق رعب يحول دون إقدام الولايات المتحدة ومعها دول حلف الناتو على مغامرة مجنونة تلحق اشد وأفدح الأخطار بالبشرية. مثلما فعلت مع اوكرانيا حيث دعمتها بكل انواع الاسلحة لمواجهة روسيا الاتحادية مثلما عملت روسيا على مواجهة اقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية لها علاقة بالطاقة وخاصة النفط والغاز وطرق إمداده سيما وان الولايات المتحدة تستورد أكثر من 60% من حاجتها لهذه الطاقة من الخارج وبخاصة من الدول المحاذية لروسيا الاتحادية سواء أكانت هذه الدول شرق أسيا أم في المنطقة المسماة بالشرق الأوسط وقد تجسدت هذه المواجهة عبر قيام روسيا بالعمل على التحكم بجزء من الإمدادات النفطية لدول اوروبا ولأمريكا وبخاصة في بحر قزوين واسيا الوسطى. بعد تجدد الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا لا صراعا باردا بل صراعا عسكريا ساخنا مبنيا على المصالح الاقتصادية الحيوية للطرفين كما جاءت الأزمة السورية لترفع وتيرة الصراع السياسي بين الولايات المتحدة الأمريكية ومن معها من الدول الغربية وبخاصة فرنسا وبريطانيا وألمانيا من جهة وروسيا الاتحادية ومعها الصين وإيران وكل مجموعة دول “بريكس” من جهة أخرى. تجسد هذا الصراع باستخدام روسيا والصين لحق الاعتراض “الفيتو” في مجلس الأمن الدولي لمرتين مما حال دول تحقيق أهداف الدول المعادية لسورية والأمة العربية والمحافظة على امن الكيان الصهيوني.
واتجهت روسيا والدول الصديقة الأخرى إلى بذل الجهود من اجل الحفاظ على امن سورية والمنطقة وأمنها أيضا وصولا لحل سياسي للازمة السورية لأنها ترى أن الحل العسكري الذي حاولت الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى والدائرين في فلكها من العملاء في المنطقة بأسرها بل وحتى دول العالم في حالة توتر وعدم استقرار وقد فجرت الحرب الكارثية في اوكرانيا على المنطقة والعالم عبر ما يمكن أن تلحقه مثل هذه الحرب من أضرار جسيمة بهذه الدول.
واجهت روسيا الاخطار المحدقة بها عند حدودها كما وقفت إلى جانب الدولة السورية شعبا وقيادة خاصة وان القيادة قد أنجزت العديد من الإصلاحات السياسية والديمقراطية.
على أية حال، لقد فقدت الولايات المتحدة الأمريكية تفردها بالعالم وظهر القطب الأخر المنافس والمصارع والمقارع، روسيا الاتحادية، ولكل قطب أنصار. وهذا ما هو اضح للعيان من الحرب الدائرة مع روسيا الاتحادية في اوكرانيا والتي انطلقت عمليا في الرابع والعشرين من شهر شباط من هذا العام.
الامين العام لحزب البعث العربي التقدمي
الأردن
فؤاد دبور